لقد ولى الزمن الذي كانت فيه توقعاتنا أقرب للصواب .. الزمن لم يتغير، أعني بذلك الزمن المحض، الزمن المجرد، زمن الفلاسفة، الفكرة التي تظل قائمة بذاتها بعيدا عن متناول حركة الإنسان .. كل ما حدث أن التاريخ تضخم وتسارعت أحداثه، ولأننا نسير كالسائر في نومه، فقد فقدنا القدرة على الشعور بالزمن لأنه ابتلعنا، نعم لقد ابتلعنا الزمن في منظومة «العالم الذكي»، ولكن كيف حدث ذلك؟ في الوقت الذي كان الفرد يأخذ نصيبه من الزمن، كان الزمن غزيرا، يجود في كل «لحظة» بجزء منه، لم نتحول بعد إلى أشياء يصنعها «العالم الذكي» ويصنع معها الخمول والكسل المؤديين لكسل العقل. أصبح الفرد معدوما أو مختبئا في رحم التاريخ، لم يولد بعد؛لأن العالم صنع الموضة، وقام بتشغيل الملايين ليلبس الملايين، أو ليأكلوا أو ليلهوا، ليستنزفوا الزمن / الوقت، الذي لم يعد بحوزتهم، لكنه لم يصنع المعرفة الإنسانية أو شرط تطورها! بل استنفد هذه المعرفة واستغلها في الكسب المادي ولتذهب الإنسانية إلى كهوف الظلام والجهل! في هذه الحقبة يعيش الإنسان في الأجهزة الذكية، يعيش معها بمحاذاتها، يلتصق بها، لا يستطيع منها فكاكا؛ لأنه لم تخطر بباله الفكرة الجهنمية للسيطرة عليه بواسطتها، لأن السيادة والسلطة والسيطرة تحالفت مع الذكاء الاصطناعي، وقررت أن تعقد اتفاقها على حساب الطبيعة المثمرة، العالم الحقيقي للمعرفة والعلم الإنساني والعقل الذي وجب تغييبه. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس إنسانيا، فشلت الإنسانية أو هي في طريقها للفشل، لاعتمادها المطلق على ذلك الذكاء اللا إنساني، من أجل مآرب لا إنسانية أيضا. قرر الإنسان أن يتطور ويصنع «العالم الذكي»، لكن طبيعته الشريرة التي ولدت من تحالفه مع الذكاء الاصطناعي، تحولت إلى آلة ضخمة تدك حصون الطبيعة الباقية للعقل الناقد وشروط تطوره. وقد أفضى الحال إلى أن كان تطور الإنسان نهاية له، وتسابق الفلاسفة في تعيين مآل البشرية، ونهايتها، والمثال أو النموذج النهائي لتطور البشرية، أو ما كان يشير إلى ذروة تطورها. فمن روح التاريخ، إلى الشيوعية وإلغاء الطبقات، إلى الرأس مالية الليبرالية، إلى هيمنة الاقتصاد والبنك الدولي وهيمنة الدولار الذي نتج عنها - هذه الهيمنة - في النهاية الاعتماد شبه الكلي على الآلة الذكية التي تفعل كل شيء بالنيابة عن الإنسان تقريبا، وهذه هي الغاية! كل ذلك تحت دعوى مملكة الإنسان في الأرض، أو الفردوس المفقود في غياب شبه تام للعقل الذي يفكر، واختراع آلة صماء تفكر بالنيابة عنه، في هذه اللحظة، ما الذي يجب علينا فعله؛ لنعيد الإنسان إلى طبيعته ومسار إنسانيته المفقودة وعقله الذي تكلس؟ إننا بحاجة لأن «نقرأ»، هكذا ببساطة أن نقرأ ولذلك سنسأل عن الأدب في هذا المقام، ماذا قدم الأدب في هذه اللحظة بالذات في مقابل هيمنة الذكاء الاصطناعي؟ قيل إن الفلسفة انتهت مع هيجل، هل يعني ذلك أن العقول لم تعد تستطيع أن تتفلسف، أن تكتب؟ ربما، لكن لماذا؟ هذا سؤال بحجم الفلسفة ولن نجيب عنه، لكن ماذا عن الأدب، هل انتهى هو أيضا؟ لم يجرؤ أحد حتى الآن أن يقول ذلك، لأن الأدب إذا انتهى سينتهي التاريخ والتغيير والعقل، يقول الروائي الإسباني ماريو بارغاس يوسا: «بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية». لقد قيل - على أية حال - أن المؤلف قد مات. من قتل المؤلف يا ترى؟ وهل بقي النص، هل بقي المتلقي/ القارئ؟ .. ولكن أي نص وأي قاريء؟ يقول يوسا أيضا: «فالشخص الذي لا يقرأ، أو يقرأ قليلا، أو يقرأ كتبا سيئة، سيكون لديه عائق: ستجده يتحدث كثيرا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات». إذن يجب أن يبقى الأدب، من الضروري جدا أن نسعى لأن يستمر إنتاج الأدب، لكننا بحاجة لأدب حقيقي، وهذا الأمر يتم بخلق قارئ حقيقي، قارئ يقرأ، لكنه يقرأ كثيرا ولا يقرأ الكتب السيئة، الكتب السيئة يجب أن يتوقف كتابها عن كتابتها توفيرا للورق وحماية للطبيعة. يقول يوسا - مرة أخرى: «نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ما سيأتي لاحقا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. لكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق يجب أن نقرأ» وتقول سوزان سونتاغ من جانب آخر: «يعتقد بعض الناس بأن القراءة مجرد مخرج من عالم الواقع إلى عالم الخيال، عالم الكتب. الكتب أكثر من ذلك، هي طريق لكمال إنسانية الفرد»، وفي الخلاصة نحن بحاجة ضرورية لأن نقرأ، ويجب أن نعمل على أن نقرأ، وأن ننشئ أجيالا تقرأ، وذلك قبل أن تسيطر الآلة التي لا تقرأ كقارئ حقيقي، فحين نسلم عقولنا للعالم الذكي، سنصير إلى حالة نصبح فيها مجردين من ذكائنا نحن، ولن أقول أننا سنتحول إلى أغبياء، ليس لأن هذا لن يحدث، ولكن رفقا بكرامتنا المهدورة على بلاط «العالم الذكي». Salman2me@ * كاتب سعودي