الحملات التي شنت خلال الأسبوعين الماضيين في شبكات التواصل الاجتماعي ومجالس السعوديين ضد مشاهد التفاخر والكرم المبالغ فيه، مع تكرار وصفها بالمصطلح الشعبي «الهياط»، رغم أن بعض تلك المشاهد ساخر ولا يمت للواقع بصلة، يمكن اعتبارها إحدى إفرازات ظاهرة آخذة في التنامي بين السعوديين هي «الهياط فوبيا». و«الهياط» لمن لا يعرفه مصطلح عربي أصيل وليس فذلكة لغوية حديثة كما يتصور معظم الناس، ففي المعجم الوسيط «تهايط القوم» أي اجتمعوا وأصلحوا أمرهم، و«هايط الرجل» تعني «ضج» أو «أثار الضجيج»، ويقال «هايط فلان فلانا أي استضعفه»، وهنا مربط الفرس، حيث يشعر الرافض المعارض للهياط غالبا بأنه سلوك يهدف إلى استضعافه شخصيا، مع أن المسألة بعيدة عن ذلك وتنطوي على فلسفة عربية أصيلة في الفخر والكرم وما إلى ذلك من صفات حرص العرب الأوائل على غرسها في مجتمعاتهم وتحويلها إلى سمة عامة لها، ففي الفخر مثلا لا يوجد ما هو أكثر هياطا بمقاييس اليوم من قول عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة «إذا بلغ الصبي لنا فطاما .. تخر له الجبابر ساجدينا»، وفي الكرم لا يوجد ما هو أكثر هياطا من ذبح حاتم الطائي فرسه الثمينة التي عمت شهرتها الجزيرة لضيوفه بدلا من أن يطعمهم الخبز والماء وفق مقولة «الجود من الموجود». «الهياط فوبيا» أو «الخوف الشديد من الهياط» هو الشيء الجديد بين السعوديين، ففي كل بقاع الأرض يوجد من يتفاخر بنفسه أو كرمه أو حتى ثروته بسلوكيات غريبة لا تضر الآخرين، وقد يتحول أحيانا إلى نجم لصحافة التابلويد عبر شرائه يختا أسطوريا لإقامة حفل ما، أو جزيرة في وسط البحر يحولها إلى ملعب جولف يقضي فيه وقت فراغه، أو حتى توزيع ثروته على «كلابه» أو «قططه»، ولا يخرج أناس يطالبون بسجنه، ولا تهدد أجهزة رسمية بأنها ستتبع أمثاله للقبض عليهم وإحالتهم للمحاكمة، لأن كل إنسان حر في ماله ما لم يضر به غيره أو يخالف القوانين. من الصور والمشاهد التي يتم تداولها مصحوبة بمطالب التجريم والاتهام بالهياط واعتباره سفها، صورة وليمة يمتد طول صحنها إلى نحو 16 مترا، مع أنها صورة تمثل أيقونة قديمة للكرم الحقيقي لدى أهالي المنطقة الشمالية، الذين لطالما فاخر كثير منهم ب«صينية» ابن مرشد، وهو شيخ كريم مشهور بسخائه، شيخ لا ينام أحد من جيرانه وأبناء بلدته جائعا، لأن فائض الولائم التي يقيمها يوزع على الفقراء ويسد جوع مئات الأفواه، وهو الأمر الذي لا يفهمه من يظنون أن الطعام الفائض مصيره مكب النفايات، بل لا يدركون أن في السعودية اليوم «بنك للطعام» مهمته جمع فائض الولائم في عدد من المدن وإعادة تغليفه وتوزيعه على الأسر المحتاجة، أي أن «الهياط» بالولائم الذي يطالب بعضهم بتجريمه يعد مصدرا رئيسيا لإطعام الفقراء والمساكين بدلا من تسولهم لسد جوع أطفالهم. تقول الحكمة العربية وهي أيضا قاعدة مهمة في الشريعة «الحكم على الشيء فرع من تصوره»، ولو أن المصابين ب«الهياط فوبيا» اقتنعوا بأن الأرزاق مقسمة بحكمة إلهية وأن ليس لهم سلطة إلا على ممتلكاتهم، وتأنوا في إطلاق الأحكام على المشاهد والصور التي لا يعرفون عنها شيئا لأراحوا أنفسهم من هذا الداء، أو على الأقل لتوقفوا عن إثارة الضجيج الذي يصنف «هياطا» أيضا في معاجم اللغة.