أهديكم اليوم كتابا جميلا، وهو جميل ليس لطرافة موضوعه فحسب، وإنما لغزارة ما يحويه من معلومات عن الحياة الاجتماعية عند المسلمين في القرن السادس للهجرة في المشرق العربي. الكتاب في موضوعه لا يتعلق بالتاريخ لكنه يعد من أفضل ما يطلعنا على طبيعة حياة المسلمين الاجتماعية في تلك المرحلة من الزمان، عنوان الكتاب (نهاية الرتبة في طلب الحسبة)، والكتاب موجه لمن أراد الاشتغال بالاحتساب، فهو يتحدث عن واجبات المحتسب وما ينبغي له أن يقوم به من المهام. صاحب الكتاب هو عبدالرحمن بن نصر الشيزري، من علماء القرن السادس الهجري، وحسب ما يقوله محقق الكتاب، فإن الشيزري كان معاصرا لصلاح الدين الأيوبي، وقد يكون هو الذي طلب منه وضع ذلك الكتاب ليكون عونا للحكومة الأيوبية على مراقبة أرباب الحرف والصنائع لما كان معروفا من ميولهم إلى الدولة الفاطمية. من خلال ما يستعرضه الكتاب من مهام المحتسب، تستشف ما كان عليه المؤلف من معرفة ضافية بواجبات الحسبة وأسرار الأسواق وأنواع السلع وألاعيب الباعة، كما تبدو المهام المناطة بالمحتسب في ذلك الزمن متعددة ومتباينة، فقد كان عليه أن يقوم بمهمة مراقبين عدة من البلدية والتجارة والصحة والصناعة والتعليم وغيرها، ويعجب قارئ الكتاب كيف يمكن للمحتسب أن يكون ملما بكل تلك الشؤون، قادرا على اكتشاف جميع ما قد يقع فيها من أساليب الغش والتدليس!! أبواب الكتاب كثيرة بلغت أربعين بابا، وكلها تستحق التأمل وفيها كثير مما يلفت النظر، لكني سأكتفي اليوم بما جاء في باب واحد منه خصصه للاحتساب على الخبازين. في هذا الباب تقرأ وصفا تفصيليا لما يجب أن يكون عليه الفرن والعاملون فيه، من الحرص الشديد على النظافة والحفاظ على الصحة العامة، ربما بما يفوق ما يحدث في بعض أفراننا المعاصرة. من ذلك ما ينص عليه من شروط مطلوب تقيد الخباز بها أثناء العجن، مثل مراقبة نظافة أوعية الماء وتغطيتها، ونظافة المعاجن وما يغطى به الخبز، وما يحمل عليه، وألا يعجن بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه، وأن يكون ملثما أثناء العجن، وأن يحلق شعر ذراعيه، ويشد على جبينه عصابة بيضاء تمنع تقطر العرق، وإذا عجن في النهار ليكن عنده من يمسك بمذبة يطرد بها الذباب عنه، وأن يمسح داخل التنور بخرقة نظيفة قبل أن يخبز. تقرأ هذه الشروط الدقيقة للصحة والنظافة، فتذهل لما كان عليه المسلمون في القرن السادس للهجرة من مدنية وتنظيم وتقدم حضاري في حياتهم المعيشية. أما بالنسبة لغش الخبز، فيبدو أنه كان من عادة الخبازين خلط الخبز (بالجلبان) نوع من البقول، و(البيسار) فول مطبوخ بالسمن واللبن، يعطي الخبز لونا ورديا جذابا، أو خلطه بدقيق الحمص أو الأرز كي يثقل وزنه، أو إضافة (البورق) إليه نوع من الملح يضفي لمعة على الخبز لكنه مضر بالصحة، لذا فإن الشيزري يجعل مراقبة ذلك ومنعه من واجبات المحتسب التي عليه أن يتابعها. ليس هذا فحسب، بل عليه أيضا أن يراقب ويتأكد من ألا يخبز العجين إلا بعد أن يختمر وأن تنشر على وجهه الأبازير الطيبة مثل الكمون والسمسم و(الشونيز) الحبة السوداء. تقرأ ذلك فتنفتح نفسك لتناول قضمة من ذلك الخبز (المتعوب عليه).