استوقفني مقال الدكتورة عزيزة المانع في عكاظ بعنوان «لا لرسائل الحب الصباحية»، حيث كتبت ما نصه: «مذيع في إحدى إذاعات الfm، أوقف عن العمل وحكم عليه بفقد وظيفته لأنه (تجرأ) فقدم في برنامجه الصباحي فقرة يطلب فيها من المستمعين الذين يتصلون بالبرنامج أن يوجهوا رسائل حب صباحية لزوجاتهم، لكن المحافظين من المستمعين لم يعجبهم ذلك، ورأوا في إتاحته المجال للأزواج أن يرسلوا لزوجاتهم كلمة حب على الهواء، خروجا على الأدب العام ومخالفة للعادات والتقاليد التي تحظر التعبير عن الحب للزوجة على مشهد من الناس. شعرت الإذاعة بالحرج أمام ضغوط المنتقدين فضحت بالمذيع لإرضائهم.». ولتسمح لي الدكتورة المانع أن إطلاقها لفظ «المحافظين» على مثل هؤلاء أقل ما يوصف به «مهادنة» لا تتناسب و«الجرأة» التي عبروا بها عن موقفهم، متجاوزين اختلاف الرأي إلى فرضه، وإجبار الإذاعة على «التضحية» بالمذيع، إرضاء لأهوائهم، فمثل هذا المسلك لا حرج في وصفه ب «الإرهاب الفكري»، وليس مفردة «المحافظين»، فعلى أي شيء حافظوا حتى ينالوا هذه الصفة، فهل في صنيعهم هذا أدنى محافظة أو اعتبار لتوجيه رباني، أو هدي نبوي، بالعكس لقد خالفوا ما أتى به نبي الرحمة للناس أجمعين. فمقابلة مثل هذه التصرفات بعبارات مثل «المحافظين»، و«المحتسبين»، و«الدعاة»، وغيرها، أمر يجب أن نتحرز أمامه أشد التحرز، ونضع له ألف حساب وحساب، فما جرأ هؤلاء إلا أننا نكيل لهم هذه «الألقاب» الوضيئة، في مقابل أفعالهم القبيحة المنكرة، التي لا أصل لها في الشرع، وإنما هي عصبيات وتزمت وغلو يكشف عن طوايا كارهة للحياة، متشبعة بثقافة القبح، منتمية إلى عالم الحقد والازدراء بالإنسانية. أما موقف هذه الإذاعة من مذيعها فلا وصف لدي له سوى أنه إذعان لم تكن جديرة به، وبخاصة أنها وسيلة معول عليها أن تشكل رأيا عاما، وتكون لسانا ناطقا بالحق، فكيف لها أن تؤدي هذه الرسالة أمام انحنائها واستجابتها لوسائل الضغط أيا كان مصدرها، لماذا لم تفتح باب النقاش على مصرعيه، وتستدعي كل الأصوات والآراء وتضعها في ميزان النقاش المفتوح حتى تعري مثل هذه الدعاوى المشتطة، ألم يكن بوسعها أن تلجأ إلى وزارة الثقافة والإعلام لتعرف حقها ومستحقها في هذا الجانب، بدلا من التضحية بمذيع ملأه الحب الفياض، فغرد به في أسمى المعاني مطالبا الأزواج بإرسال رسائل حب لزوجاتهم، خروجا بحياتنا الزوجية من صحراء الصمت القاتل في ربوعها، واستنطاقا للعواطف الخرساء التي ما انفكت تسرب البرودة في أوصال علاقاتنا الزوجية حتى أصبح الطلاق هو الغالب.. فما أجملها من دعوة، وما أنبلها من رسالة. وليعلم أصحاب القبح المستشري في عقولهم ووجدانهم، أن دعوة ذلك المذيع مسنودة بالشرع، ومحفوفة بهدي حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فإن كانوا يرون في التعبير عن الحب للزوجة والجهر به أمرا يخالف الشرع، فليرجعوا إلى حديث رسول الله عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته، فقلت: «يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها». فهل رأيتم الرسول صلى الله عليه وسلم، استنكر على صاحبه هذا السؤال، ولم يعبر له عن حب عائشة بنت أبي بكر صراحة، وبعبارات واضحة. ومن حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه».. وعن أنس بن مالك قال: «خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب»، وكان عليه الصلاة والسلام يرخم اسم عائشة ويناديها دلعا يا عائش ويا عويش ويا حميراء ليدخل السرور على قلبها. وتقول عائشة وهي تنظر إلى الأحباش يلعبون بحرابهم في المسجد وضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده وأنا أنظر وقد رأيته يراوح بين قدميه من التعب ويقول حسبك وأقول له لا تعجل وليس بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن الحريصة على اللهو. ويقول نبي الرحمة لأصحابه ونحن من بعدهم إذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه وذلك عندما رأى رسول الله امرأة فأتى زوجته زينب، في رسالة واضحة أن الزوجة هي الأمان والسكن. ولو شئتم لمضينا في هذا الباب فخيركم خيركم لأهله في رسالة حب صادق بعثها الصادق المصدوق قولا وفعلا لنسائه؛ أمهاتنا الكريمات العفيفات، فأي نقص كان في ذلك، وأي مجانبة للصواب والفطرة السليمة في ذلك.. إنها صورة حية للإنسانية الحقة في كمالها، حين تشرق فيها معاني الحب السامي، فتعبر عنها أصدق تعبير، وترسلها إلى «نصفها الآخر» فتورق فيهن الحياة، ويمتلئن محبة، ويزددن تعلقا وشغفا بأزواجهن، وما عليهن من بأس لو فعلن ذلك وأكثر، فإنما هو رباط الزوجية المقدس، ووثاق المحبة المرعي من العلي القدير بالمودة والرحمة، وإنها لمودة تستوجب من الرجل أن يحييها ويسقيها كل يوم بالقول الحسن، والفعل الأحسن. والله لن نكف عن إرسال رسائل الحب لزوجاتنا، وعلى «متصحري» المشاعر، أن يلزموا أوديتهم البلقع هذي، ويعيشوا في ضمورها وجفافها وشظفها، فما بنا من حاجة إلى صلفهم وجفوتهم وغلظتهم، وليظلوا على عبوسهم القمطرير، وتقطيب وجوههم الكالحة، ولكن بعيدا عن حياتنا، فإننا سدنة الحب الخالص لزوجاتنا وأبنائنا تحقيقا لجوهر الإنسانية في نفوسنا.