في 1961 ظهر كتابه «الكذب الرومنسي والحقيقة الرومنتيكية»، حيث سيهتم في هذا البحث بالأدب وما يقوله عن الرجل، في 1972 مع «العنف والمقدس» فيه سيقشر الميكانيزمات الدينية لفهم أعمق للعنف. في 1978 سيصدر «الأشياء الخفية منذ بداية العالم» الذي سينتقد فيه المسيحية. هذا الكتاب سيتسبب في موجة من النقد والعداء تجاه روني جيرار. يتوقف قليلا ويعود إلى تحليل تخصصه «الأنتروبولوجيا» بحيث سينتقد أنتروبولوجيا كلود ليفي شتراوس مفندا مزاعمه عن مفهوم الأضحية. ويعود أيضا إلى الأدب بحيث سينتقد أطروحات الناقد الفرنسي جورج بولي خاصة مفهوم المحاكاة. من هو روني جيرار فكريا؟ من أي جبة خرج؟ تأثر جيرار بالفكر دوركايمي والباسكالي. وزواج بين الفكر السوسيولوجي والفكر الديني المرتاب من المؤسسات التي تستخدمه للوصول الى مآربها السياسية والاقتصادية، وبالتالي كان بين الفكرين مفكرا شاحذا للوعي ومنتبها للادعاءات والزيف باحثا بلا هوادة عن الحقيقة. وسواء كان دوركايمي أو باسكالي، فإنه كان يفضل التحليل على ما يفسر بالتجربة الإيديولوجية. فلا عقلانية ولا إيمانية. ويمكن القول إن ما تحدث عنه روني جيرار واعتبر مجرد هرطقة، خاصة ما نظر له حول العنف يبدو جليا يكاد يبشر بنبوءة فكرية. ها هو العنف يندلع في أكثر من مكان وفي علاقته بالمقدس أساسا. ولا يشك أحد أن العنف العقائدي والطائفي في بداياته وما سيأتي سيكون مرعبا. إن روني جيرار حاول أن يحلل المعتقدات بالاعتماد على المنهج الدوركايمي والمقاربة الدينية لباسكال. هذا هو منهج روني جيرار الذي خلف الكثير من السخط وعد الفهم والشك والأسئلة المحيرة. يلح روني جيرار في اطروحته الفكرية أن التاريخ ذو طبيعة تراجيدية وعنف لا يمكن التحكم فيه. وهي افكار عكس أطروحات المفكرين المعاصرين الذين يرون أن العنف يمكن التحكم به. يرى روني جيرار أن الإنسان بعيد كل البعد عن أي نوع من المصالحة، بل العكس، فإن الاختلافات ستزداد والاحتدام والاصطدام سيتصاعد، ومن هنا فإن العنف متعلق بأساس القضية وجوهر الإنسان ونوازعه المؤذية والمؤدية إلى صراع متواصل. دائرة العنف بالنسبة لجيرار حطبها الإهانة والتنافس والغيرة والرغبة المحاكاتية في الانتقام. كيف يمكن إذن تحطيم هذه الدائرة والحيلولة دون استمراره إلى ما لا نهاية؟ يقترح علينا روني جيرار أن نعود إلى المعتقد ومن خلاله يتم تقديم القرابين التي ستحد من استدوار الانتقام والقتل. وبطبيعة الحال فإن القرابين القديمة هي المفصل لإنهاء صيرورة العنف. إن القربان يحمل «بخطايا العالم كله» وقتله يصالح المجتمع مع القوى المقدسة. في المجتمعات كلها التي تعتبر بدائية نجد هذه الآلية «القربان» فهو يساعد على يصرّف العنف ويسكّن الضمائر ويجعل من المنافسة والغيرة والرغبة في حالة عطالة مؤقتة. وبصيغة أخرى لإغن القربان يكسر مرآة المنافسة المحاكاتية التي لن ترى أبدا ولن تنتشر من شخص إلى آخر. إن هذا القربان بالنسبة لروني جيرار هو مؤسس الطقوس والعادات التي بدورها ستخلق المؤسسات. وهكذا ستولد الثقافة والمؤسسات جميعها التي ستجعلها تعمل وتمارس وتتمظهر في المجتمع. ومن هنا يمكن للمعتقد أن يمنع المجتمع من أن يدمر نفسه بنفسه. روني جيرار فيلسوف فرنسي ولد بافينيو في 1923 وتوفي في 4 نوفمبر 2015 بستانفورد كاليفورنيا عن عمر ناهز 91 عاما انتربولوجي واستاذ الادب المقارن. اشتهر بنظرية المحاكاة، وحيل الرغبة والعنف والمقدس. اطروحات فكرية غير مطروقة من قبل زاوجت في منهجها بين الانثروبولوجيا والاثنولوجيا والفلسفة والادب. منظر العنف في زمن قمة العنف يرحل روني جيرار منظر «العنف المقدس»، مخلفا وراءه دورات من العنف المستشري في مناطق عديدة من عالمنا اليوم، وتاركا أكباش فداء كثر دنسوا لحد الرذيلة كي يبرروا الوحشية المقدسة لبني البشر. وبذلك يطوي فارس العنف المقدس الراحل روني جيرار عمرا أكاديميا وعلميا مديدا، نثره على مساحات التأمل والتفكير في مآل الإنسانية وأوضاعها المتناقضة التي تسير بالإنسان نحو الموعد الكوني الذي سيلاقي فيه شرور العنف الذي سكنه عبر العصور والأزمان. من على منبر جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا، التي عاش فيها روني جيرار زمنه الأكاديمي الحافل بالأسئلة والاشكالات، أعلن يوم الأربعاء 4 نوفمبر 2015 عن وفاة المفكر والانثربولوجي والمنظر الأدبي ومؤرخ الأديان جيرار صاحب نظرية «الرغبة المحاكاتية»،و «ميثولوجيا التضحية»، مخلفا وراءه تراثا فكريا غنيا بتأملاته، عميقا بتشكلات رؤاه، وبرحابة مرجعياته، موسوما بنسقية ملحوظة تنظم التعدد والتنوع داخل مبدأ الوحدة الفكرية والمنهجية. مما حدا بالفيلسوف روبيرتو كلاسو وصفه ب «الشيهم»، قائلا عنه ذات فرصة: يعرف الثعلب الكثير من الأشياء، لكن الشيهم لا يعرف سوى شيء عظيم واحد، والشيء العظيم الوحيد الذي كان موضوع تأمل روني جيرار هو المنافسة المحاكاتية والعنف واللذين لهما حضور داخل تاريخ الإنسان. هاجر روني جيرار إلى الولاياتالمتحدة الأميركية باحثا عن متنفس أقوى فأسس هناك لعمل أصيل يجمع بين التفكير العلمي والتبشير المسيحي، فكتبه العديدة، والتي ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، تشكل بحثا واسعا حول الرغبة الإنسانية و «العنف»، و «ثقافة الأضاحي». بدأ روني جيرار رحلته الفكرية عندما أسندت إليه مهمة تدريس الأدب الفرنسي إلى طلابه في الولاياتالمتحدة الأميركية، فبدأ يفسر لهم الكتب التي أثرت في شبابه: سيرفانتس ،ودوستويفسكي، وبروست، فشرع يقارن بين هذه النصوص، لينتقل بعد ذلك إلى ستندال وفلوبير، ليكتشف بأن هذه الأعمال العظيمة ليست أشكالا لغوية وفنية، وإنما هي كذلك ترسم مصير رغبة الإنسان، تلك الرغبة التي تدفعه إلى التقليد من خلال رغبته محاكاة الآخرين ونزوعه إلى امتلاك ما لدى الآخرين، مما يتولد عنه العنف المدمر. عبدالحق لبيض ذكرى حلم لم يتحقق يرتبط روني جيرار في ذاكرتي بتجارب معرفية عشتها خلال سنوات الدراسة الجامعية سواء حينما كنت أدرس بجامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق الدار البيضاء أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أو جامعة محمد الخامس كلية الآداب بالرباط سنوات التسعينيات. تعرفت لأول مرة على فكر رونيه جيرار حينما كلفني أساتذة مادة الحضارة بتقديم كتاب لمحمد أركون «تاريخية الفكر العربي الإسلامي» خلال السنة الثالثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق، وداخل الترسانة المفاهيمية والمنهجية الجديدة المأخوذة من علوم الإنسان والمجتمع التي يشتغل عليها الباحث أركون تعرفت على مفهوم «الرغبة المحاكاتية» لرونيه جيرار، فأقبلت على قراءة كتاب «العنف والمقدس» في طبعته الفرنسية الذي استعرته آنذاك من مكتبة المعهد الثقافي الفرنسي، ومازلت أتذكر كيف قرأت هذا الكتاب بمتعة وشغف لا حد لهما خصوصا أنه بحث أنثربولوجي من الطراز الرفيع، قراءة لممارسات وشعائر وطقوس للإنسان البدائي وللإنسان المعاصر في الآن نفسه وأيضا قراءة لنصوص دينية وأخرى أسطورية وأيضا النصوص الأدبية مثل الإلياذة والأوديسا. ثم جاءت بعد ذلك بسنوات دراستي الجامعية «دبلوم الدراسات المعمقة» تخصص مناهج للسنة الدراسية 1993/1994 إذ أتيحت لي الفرصة لكي أعمق تواصلي مع مؤلفات روني جيرار. فقد كان الأستاذ والناقد المغربي محمد برادة يشجعنا على تناول المفاهيم بالدراسة والتحليل، الأمر الذي جعلني أقترح تقديم عرض حول كتاب «العنف والمقدس» وأن أسلط الأضواء على المفهوم المركزي الذي تدور حوله جل أفكار و تصورات روني جيرار ألا وهو مفهوم الرغبة المحاكاتية. إن الميزة الأساسية التي تطبع سلوك الإنسان في نظر روني جيرار هو أنه كائن محاكاتي أو بتعبير آخر كائن تتحكم فيه الرغبة المحاكاتية. وهذه الرغبة تقود العلاقات الإنسانية نحو ما يسميه بالنزاع المحاكاتي الناتج عن عملية التنافس على امتلاك ما يرغب في امتلاكه الآخرون، فينشأ الصراع ويبرز العنف الذي يهدد المجتمع، وهنا لا بد من العمل على تغيير مجرى العنف باختيار كبش الفداء، و يرى جيرار أن العنف الممارس على الضحية المختارة يسمى فيما بعد بالعنف المؤسس. وبما أن نيل دبلوم الدراسات المعمقة يجب أن يصاحبه الاشتغال على أطروحة، فقد اقترحت على الأستاذ المشرف محمد برادة أن أتقدم بأطروحة جامعية تحت عنوان المفاهيم الأساسية في الخطاب النقدي لرونيه جيرار من خلال كتابه شكسبير: نيران الحسد. ما أثارني في هذا الكتاب الممتع والمفيد قدرة رونيه جيرار على مقاربة نصوص أدبية وهي هنا مسرحيات شكسبير وأن يكتشف فيها أبعادا أنثربولوجية تعبر بجلاء عن المعمار المفاهيمي الذي شيده جيرار في كتبه السابقة. عزيز القاديلي عن روني جيرار قليلة هي الكتب التي تهز الوجدان أثناء قراءتها الأولى، حد الذهول ولا يفارقنا ذلك الإحساس اللذيذ مهما بعد أوان تلك القراءة. منذ ثلاثة عقود صاحبت كتاب «العنف والمقدس» للمفكر الفرنسي روني جيرار(1923 - 2015)، لأيام عديدة، كنت أعيش ما يشبه الانخطاف والدهشة مع كل جملة وعلى مر صفحات الكتاب غير القليلة، وإلى يومنا هذا ما زلت أحن إلى ذلك الدفء المخدر الذي كان يهدهد الوجدان ويبهر العقل في مغامرة قرائية لا تتكرر كثيرا في سيرة المرء بوصفه قارئا، بالأمس مات روني جيرار، لكن إبداعه سيظل حيا في الوجدان وفي العقل معا، وما أزال أحتفظ إلى اليوم بالأثر المدوّي لكتابه المعلمة «العنف والمقدس» الصادر عام 1972، الذي ينم عن معرفة عميقة للباحث الأنثربولوجي الفرنسي بالتراجيديا اليونانية وعلم الاجتماع وعلم النفس، كتاب خصصه لدراسة الشعائر البدائية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، والذي تمحور حول مفهوم العنف والتضحية والديني، من ضمن مفاهيم مؤسسة أخرى، مثل الأضحية المفتدى بها أو كبش الضحية، والسفاح، والأعياد الديونيزوسية، ومفهوم «الأخوين العدوّين»، الذي صار استعارة دارجة على كل لسان؛ ولعل الكتاب ما يزال يحافظ على راهنيته، خاصة ونحن نعيش في عالم اليوم الذي لا لغة فيه تعلو على لغة العنف، هذا العنف المعدي، والذي قال عنه روني جيرار بأنه يهدد النظام القائم، إن لم يتم الحد من تمدده، وتضييق الخناق عليه بتصريفه في تلك الأضحية المفتدى بها، التي تطهر المجتمع من نزعة القتل الفطرية الحيوانية الكامنة في أفراده. على أن هناك كتابا طبع مسيرتي بوصفي قارئا، ألا وهو كتابه الذي لا يقل عمقا وثراء، وأقصد مؤلفه «كذب رومنطيقي وحقيقية رومانيسيكة». شكير نصرالدين