قضت صديقة لي عقدا من الزمان خارج البلاد للدراسة، وكانت تدرس في مدينة بعيدة ببريطانيا لكننا كنا نتواصل كعادة الطلاب المغتربين. وصديقتي خفيفة الدم هذه كانت تتتبع أخبار من سيسافر الى الوطن لتمنحه قائمة من الطلبات الغذائية التي تشتاق لها ولا تجدها في الغربة: مثل التميس وجبنة كرافت الكاسات والقهوة العربية وحتى «دجاج البيك» الذي يتم تهريبه بحرفية عالية من خبراء تهريب الممنوعات الغذائية ويعتبر من المجازفات التي يرفض الكثيرون تحمل مسؤوليتها. وكنت أحاول إقناعها بأن لذة بعض الأطعمة في أكلها طازجة بمكانها ووقتها ولكن بلا فائدة. وكانت دوما تنزل نقدا غاضبا على الطعام البريطاني الخالي من النكهات. «الله يا أحلام»، قالت لي في يوم ممطر ونحن في مطعم نأكل قطعة سمك ونغطيها بطبقة معتبرة من الملح والفلفل لإعطائها القليل من الطعم: «لو دعوتك لواحدة من ولائم السمك اللي تعملها جدتي راح تدوخي وتترمي في أرضك! الناجل بالفرن مع صلصة الحمر، وكفتة السمك الطرية بالأعشاب، والهامور مع صلصة الطماطم والكزبرة، والسيجان المقلي المقرمش بالبهارات والملح والكمون! مع عصرة ليمون وشوية رز وعدس مع سلطة طحينة ودقس وصيادية مغطاة بالصنوبر المقلي – يا ربي على الجمال والإبداع!» وتغمض عينيها كالمتيمة الدائخة في مسرحيات روميو وجولييت، ثم تأخذ في صب اللعنات على الإنجليز وطعامهم، لا بهارات ولا لون ولا ريحة، مقلي او مسلوق والسلام. قضت صديقتي ذلك الوقت الطويل في الغربة وكانت لها ذكريات جميلة وهي لا تنكرها – كذلك اليوم الذي أوصت فيه صديقتها بجلب شراب التوت المركز الذي يعتبر من أهم طقوس رمضان في بعض البيوت – وصديقتها العزيزة لم تتوان عن ممارسة اتيكيت الكرم السعودي فأتت لها بكمية محترمة من زجاجات التوت التي تحطمت جميعها في حقيبة ملابس زوجها مخلفة بقعا دائمة ودمارا شاملا للعلاقات بين الزوج الغاضب والصديقة اللي «يعني راح تموت لو ما شربت شراب التوت». ولكن كانت لديها ذكريات أخرى رهيبة تكرهها مثل تعرضها للعنصرية ومعاناة البحث عن بيوت وجيرانها الذين يزعجونها بالموسيقى والضجة وحفلات المراهقين، ومعاناتها مع مشرفي بحثها وغلاء المعيشة وخوفها على أطفالها من عادات الغرب. وكانت دائما تنقم على الغربة، وتردد يا رب أرجعنا الى بلادنا سالمين غانمين وكلما جاءت سيرة جدة علقت أنها «أم الرخا والشدة» وتسب البريطانيين في كل مناسبة. عادت صديقتي الى أرض الوطن ورأيتها بعد فترة فسألتها عن حالها فقالت: الله يا أحلام اكتشفت انه الإنسان طماع وعمره ما يرضى بوضعه، كنت اشتكي من الغربة وعدت وما زلت اشتكي. اولادي اشتاقوا لمدرستهم المنظمة وأنشطتهم وأصدقائهم، وابني المريض لم أجد مدرسة تفهم وضعه – وبدنا نشتري بيت والأسعار نار، سافرنا ودرسنا وتعبنا ورجعنا بأحلام كثيرة، لنفاجأ أن من لم يذهب ويفني عمره في الدرس والتحصيل بل اختار الجلوس في البلاد هو أفضل حالا منا اليوم بمراحل. يا ريتنا قرينا ببلدنا. عدنا لنجد أنفسنا غرباء بديارنا، فحتى الكلام دخلته مصطلحات جديدة لا نفهمها. وبعض الأشياء التي كنت أشتاق لها كالعلاقات الاجتماعية أصبحت عبئا علينا فالناس تغيرت وأصبحوا يتشرطون في الضيافة وينظرون الى ماركات الهدايا وأصبح الكل يهتم بالمظاهر وكل هدايا المجاملات التي كنا مرتاحين منها عدنا لنجد أنها صارت مبالغا فيها. حتى حضور الأفراح أصبح يكلف ميزانية فموسم الصيف بمناسباته يعتبر نكبة رغم أننا مقلون جدا في ذلك. وعائلتنا لا تعرف الخصوصية فأجد فجأة أهلي أو أهل زوجي يدقون الباب ليسهروا عندنا بلا سابق انذار، وهم طيبون وأحبهم ولكنهم لا يفهمون أن عادات زمان انقرضت. فقديما كانت الضيافة فول وتميس أو المتيسر والحمد لله. أما الآن فالضيوف يأتون ليقولوا لك مشتهين تشيز كيك فاكتوري او شيك شاك! ويختلسون النظر الى علب الجاتوه وتغليف الشوكولا لمعرفة مصدرها – وكله موثق بالإنستجرام ويوزع عبر القارات ولو قصرنا ففضيحتنا بجلاجل في السوشيال ميديا. تذكرنا أنا وصديقتي يومها بأن السعادة المطلقة مستحيلة ولا يوجد مكان كامل والإنسان طماع ينظر دائما لما لا يملكه. ختمت صديقتي النقاش بضحكة وسألتني: بالمناسبة، تعرفي لنا أحد في بريطانيا نوصيه على بسكويت فورتنوم آند ميسون، وحشنا والله زمان عنه؟ الله يرحم بريطانيا وأيامها الحلوة!