مع بداية النقلة النوعية في وسائل الاتصال بين الناس ساد مصطلح أن العالم أصبح قرية صغيرة، ومع التطور العلمي المتسارع الذي شمل كافة مناحي حياة الناس وزاد في ترابطهم وغير خارطة العالم تقنيا وصناعيا ظهر مصطلح العولمة، الذي لم يستثن مجالا من مجالات الحياة والعلاقات بين الناس، وأصبحت العولمة تجسيدا لحقيقة أن العالم أصبح قرية صغيرة، وهي، من هذا المنظور، نتاج علم سخر لخدمة الإنسان بعيدا عن حدود السياسة، هي نزوح نحو فضاء يستوعب العقول. وقراءة أدبيات العولمة الحديثة تؤكد أنها نتاج علمي بامتياز أيضا، فهي صهرت عوامل الإنتاج في بوتقة لم تستسلم لمحددات الزمان والمكان، وتكون بذلك قد تجاوزت فكر النظرية الاقتصادية التقليدية، ولذلك رسمت العولمة معالم العالم الجديد. وهذا التحول السريع في العولمة الذي تجاوز الجوانب الاقتصادية، أو المادية عموما، هو الذي خلق نوعا من الخوف عند بعض المجتمعات، خاصة المحافظة، وأصبح الخوف من العولمة معول هدم، في كثير من الحالات، مع أن العولمة هي نتاج فكري، والواثق من موروثه الأيديولوجي والثقافي لا يخاف منها، بل يستثمرها للانطلاق والتقدم. ولذلك فإن من يفهم العولمة يصنعها، ومن يصنع العولمة هو الذي يشق طريق العلم، ولن نكون من صناعها إلا إذا تجاوزنا الاختلاف حول المفهوم واتفقنا على التركيز على المضمون، وهو الأهم، ولعل التفسير الاقتصادي لها هو الأقرب إلى تجسيدها ومن ثم إسقاطها فكريا، ذلك أن مضمون العولمة هو في حقيقته تأكيد وتوسيع لنظرية القيمة المضافة، لكن الجيد فيه أنه أخذ بعدا كونيا، وأسهم في التخلص من عوائق التكامل بين الناس التي أسهمت في الماضي في التراجع الذي طال العديد من مجالات الحياة. ولذلك فإن الخوف من العولمة لا مبرر له، والتخلص من هذا الخوف يستدعي ثقة في النفس، ونحن نحتاج إلى الإيمان بما نملك من قيم إنسانية وإمكانات مادية، ونحتاج في الوقت نفسه أن نعمل على حسن استثمارها عمليا في عالم جديد لم يعد يجادل في مفهوم العولمة، بل أخذ يبذل الجهد ويسخر الإمكانات للأخذ بها إلى آفاق أوسع وأرحب تسهم في رفاه هذا الإنسان، الذي يفترض أن يكون الوسيلة والغاية لكل تغير في الفكر والعلم، فهذه هي سنة الله عز وجل في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.