أهمية ما يجري في هذا الجزء من العالم تتجاوز مجاله الإقليمي وحدوده الجغرافية ولهذا يلقى اهتمام غالبية دول العالم لتأثرها بما يعتريه من أحوال بين الاضطراب والاستقرار. والعلاقة السعودية الأمريكية، على امتداد العقود الماضية، كانت إحدى ركائز الاستقرار فيه ولهذا جاء اللقاء التاريخي بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس الأمريكي باراك أوباما وما انتهت إليه الزيارة من مناقشة الشراكة الاستراتيجية للقرن الواحد والعشرين بين البلدين، فاصلا مهما في هذه العلاقة لأنه أنهى سيلا من التخمينات والتحليلات والآراء طوال الأشهر الماضية، أفرغت الجهد لقراءة مستقبل العلاقة بين المملكة وأمريكا في ظل المتغيرات والتبدلات التي تجتاح المنطقة، وما أحدثته من مواقف متفاعلة مع أطماع بعض دول الإقليم وتمدد المجموعات الإرهابية وما شكلته من أخطار على أمن الدول واستقرار المجتمعات. . وكاد بعض الآراء – حتى المعتدلة منها – يذهب إلى أن العلاقة التاريخية بين البلدين تتعرض لاختبار حقيقي قد يدفع بها في اتجاه غير ما كانت عليه.. واستدعى أصحاب هذه الآراء كل المواقف والأحداث التي تدعم تحليلاتهم وتصوراتهم، من توقيع الاتفاق النووي مع إيران إلى التحرك السعودي في اتجاهات عدة لبناء علاقات مع دول كبرى تبدو ساعية إلى المنافسة مع الولاياتالمتحدة على كسب مواطن لها في الرمال المتحركة. واندفع بعض الآراء والتحليلات، غير المتأنية، إلى الجزم بحدوث قطيعة بين البلدين وأن واشنطن اتخذت قرارها في اتجاه طهران كحليف بديل لعلاقات تاريخية استراتيجية مع الرياض والعواصم الخليجية الأخرى. وجاءت عاصفة الحزم، قرارا سعوديا مستقلا لاستعادة الشرعية اليمنية ودفع خطر الانقلابيين عن المملكة ودول مجلس التعاون لتؤكد عند هؤلاء المحللين أن الرياض حزمت أمرها على الابتعاد عن واشنطن.. لكن جاءت الزيارة الملكية التاريخية ونتائجها لتحسم هذا الجدال والنقاش والتحليلات والاجتهادات ولتعيد للأذهان مجموعة من الحقائق كادت تغيب في ظاهر المواقف.. وهذه الحقائق هي: أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ما تزال الدولة الكبرى في هذا العالم، وهي محور السياسة الدولية وحضورها وتأثيرها في الأمن الإقليمي والدولي لا يمكن تجاهله وأنها صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم والبيئة الأكثر تقدما علميا والدولة الأقوى عسكريا، صناعة وتسليحا وتدريبا.. والحقيقة الثانية أن المملكة العربية السعودية دولة كبرى قائدة ومؤثرة في إقليمها ومجالها الطبيعي بالعالمين العربي والإسلامي، وأنها لاعب أساسي في الاقتصاد وسوق الطاقة.. وثالث الحقائق، التي كادت تغيب عن البعض، المصالح الضخمة التي قامت عليها العلاقة بين البلدين ماتزال قائمة وإن تغير بعض تفاصيلها نتيجة لتبدل واقع ما حولها من الدول وما استجد من تطورات سياسية وأحداث عسكرية وطائفية في المنطقة، واختلطت بالأهداف السياسية لبعض الدول.. هذه الحقائق الموضوعية كادت تختفي عن رؤية الكثيرين الذين ينشغلون بواقع المنطقة ومستقبلها فتوهموا دخول العلاقة بين البلدين مرحلة جديدة من الاختلافات قد تفضي بها إلى الضعف أو حتى التغيير الجذري. التكافؤ في العلاقات الحقائق المشار إليها تشكل خلفية متماسكة وأرضية صلبة ثابتة تقف عليها رؤية البلدين للشراكة المحققة لأهدافهما الوطنية وهو ما يؤكد المضي على هذا الطريق ولأن الدولتين تدركان أهمية العلاقة بينهما وما تمثله للمصالح الوطنية العليا، كما تدركان تأثير المتغيرات السياسية والمصالح الآنية على مسار العلاقات الاستراتيجية، وحتى لا تتركا هذه العلاقة المتميزة عرضة لتأثير المواقف العارضة سارعتا إلى إبرام ما انتهت إليه الزيارة التاريخية من أجل تحصين الشراكة الاستراتيجية وتعميقها وتجديد آلياتها وجعل «المنافع الاقتصادية» الأساس الذي تستند عليه هذه العلاقة، وهذا الخيار هو الذي سيجعلها قادرة على تجاوز ما يعترضها من مواقف لا تنسجم مع هذا الأساس.. وحتى تقوم علاقة محمية ومصانة قادرة على العيش والاستمرار والصمود في الظروف والمراحل المختلفة كان لابد من قيامها على أساس «التكافؤ» في المصالح، فليس هناك من سيأخذ ما لا يستحق، فالمملكة لا تريد شيئا من أحد وهي مكتفية بأرضها وشعبها وثرواتها ووزنها الروحي والثقافي والاقتصادي وهي لا تطلب من حليفها الكبير أن يمنحها ما لا تستحق كما أنها لن تكون في موقع من يعطي الحليف والشريك ما ليس له.. هذا المبدأ «التكافؤ في العلاقات»، كل بحسب موقعه ومساهمته وقدراته، هو الضمانة التي تملك قوة الاستمرار وحيوية التجديد ومرونة التفاعل مع الأحداث دون المساس والمبادئ والأسس التي تقوم عليها علاقة الشراكة.. وبنظرة موضوعية على البيان المشترك الصادر عقب الزيارة الناجحة ستتضح الرؤية التي تقوم عليها العلاقة بين البلدين في المستقبل، فالبيان أكد على القضايا الاستراتيجية مع تسجيل موقف البلدين تجاه الأوضاع الراهنة، والرؤية المشتركة لمعالجة الأزمات التي تعيشها المنطقة، وخاصة بعض البلدان التي تتعرض جبهاتها الداخلية للتمزق والحروب الأهلية وتزداد مشكلاتها تعقيدا مع «تراخي» التحرك الجماعي في معالجتها.. أعطى البيان أهمية خاصة للشراكة الاستراتيجية الجديدة للقرن الواحد والعشرين وكيفية تطوير العلاقة بشكل كبير، ورؤية المملكة لهذه الشراكة، حيث وجهت قيادة البلدين المسؤولين لوضع الآليات المناسبة للتنفيذ.. كما اهتم البيان بالاتفاق حول مواجهة الإرهاب والتطرف والتزام البلدين بمحاربة تنظيمي القاعدة وداعش والتنسيق في هذا المجال مع المجتمع الدولي لمكافحة هذه الأمراض المهددة للاستقرار.. وأكد البيان على معالجة القضية اليمنية في «إطار المبادرة الخليجية ونتائج الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن 2216»، وشدد على حل دائم للصراع في سوريا قائم على المبادئ التي اشتمل عليها إعلان جنيف 1. المنافع الاقتصادية المتبادلة قلنا إن الرؤية الجديدة للعلاقة بين البلدين جاءت استمرارا وتطويرا للأسس التي قامت عليها منذ البداية لكن الجديد هو إبراز الاقتصاد في مقدمة الصورة لقناعة البلدين بأن توطيد العلاقات وتجديدها وإكسابها قوة ومتانة يحتاج إلى توسيع قادة المنخرطين فيها، وهذا يعني إشراك قوى المجتمع الفاعلة في الاقتصاد والعلم والثقافة والإعلام وخلق ديناميكية تولد طاقة المصالح وتزيد من حضورها وفعالياتها، وسيكون كل شريك مطالب بتقديم ما يطمئن الطرف الآخر ويساعده على توفير آليات تحقيق الأهداف المشتركة. من هذه الرؤية تقدمت المملكة إلى أصدقائها الأمريكيين بأوراق عمل في المجالات المختلفة، منها ما هو في قطاع التعدين والبترول والغاز، ومنها ما هو في قطاع التمويل والمصارف والصناعات المدنية والعسكرية. ولأن الرؤية كانت جلية والأهداف محددة فقد قدم الجانب السعودي دراسات واضحة المعالم محددة الفوائد والاحتياجات، فعلى سبيل المثال قدمت المملكة فرصا استثمارية في مجال التعدين تقدر قيمتها في حدود 20 مليار دولا وفي مجال البترول والغاز في حدود 300 مليار دولار إلى جانب 75 مليار دولار في قطاع التجزئة بعد فتح الأسواق للشركاء في هذا القطاع، إلى جانب قطاع التمويل الذي رأت المملكة أن من المصلحة فتح الأبواب للمصارف الأمريكية صاحبة الخبرة والإمكانات المالية للدخول في الشراكة لأن دخول هذه البنوك إلى السوق السعودي من شأنه تطوير الصناعة البنكية وخلق منافسة وعرض المنتجات والخدمات المساهمة في تحسين بيئة التمويل في المجالات المختلفة خاصة أن اتفاق الشراكة يفتح الآفاق أمام رؤس الأموال الأجنبية لدفع عملية الصناعة وتوفير التمويل المطلوب بالقدر والوقت والمهنية المطلوبة. الأهداف الرئيسية ويمكن للمتابع أن يرصد الأهداف الرئيسية لهذه الشراكة الاقتصادية المتشعبة، ولعل من الأهداف المهمة من وجهة نظري – خلق الوظائف - ومن المتوقع والطبيعي أن تخلق هذه الاستثمارات الضخمة الكثير من الوظائف على مختلف المستويات والدرجات والخبرات المطلوبة لها.. وهذا الهدف ستكون له فوائد حقيقية على المواطن حتى لو تحررت بعض القطاعات من شرط السعودة لأن التشجيع على خلق الوظائف سيدفع طالبيها من السعوديين إلى الالتزام بشروطها والسعي للحصول على المؤهلات المطلوبة، وهذا سيؤدي إلى تطوير قدرات الشباب وسيرفع من كفاءة الجامعات والمعاهد ومراكز التدريب.. وهذه ليست دعوة لعدم إعطاء أبناء وبنات الوطن الأولوية في الوظائف، بل المقصود من وراء هذا «الانفتاح» هو تحقيق الخطوة الأولى المهمة وهي «إيجاد الوظائف» ثم الاستعداد لشغلها. وقد أثبتت تجربة السعودة – رغم وجاهتها وسلامة منطلقها – أنها لم تساعد كثيرا على خلق الوظائف لأن أهدافها الأساسية إعطاء الأولوية للسعوديين في الوظائف المتاحة، في حين أن النظرة الجديدة هي الاهتمام بخلق الوظائف أولا ثم وضع الآليات الملائمة لتقديم المؤهلات دون أن يكون ذلك عاملا في عرقلة المشروع في جوهره. أما الهدف الثاني - من وجهة نظري _ فهو نقل التكنولوجيا وتوطينها، فالمملكة قطعت شوطا جيدا في التنمية البشرية والعناية بالتعليم من خلال جامعاتها المحلية ومن خلال برنامجها للابتعاث الخارجي الذي شكل «رافعة» مهمة في الإعداد للمرحلة المقبلة. وهذا الجهد والإنجاز في مجال التنمية البشرية هو ما يؤسس لما نتحدث عنه حول اقتصاد المعرفة الذي لا يمكن أن يقوم بمعزل عن الشراكة العلمية الحقيقية قبل رأس المال والصناعة ونتائج الأبحاث العلمية، وكل المجتمعات التي تقدمت في مجال اقتصاد المعرفة خلقت بيئة قانونية وصناعية واستثمارية ارتبطت بشراكة حقيقية مع الجامعات ومراكز الأبحاث ومن خلال هذا النوع من الشراكات تقدم البحث العلمي ووجد الباحثون من يقف معهم ويترجم نتائج أبحاثهم إلى منتجات تصل إلى المستهلك. وحين تدخل المملكة في شراكة استراتيجية مع الشركات الأمريكية الكبرى في مجال الطاقة (البترول والغاز) والتعدين والتمويل فهي بهذا تؤسس لترسيخ اقتصاد المعرفة الذي تنعكس نتائجه في صور متعددة أبرزها توفر العقول الوطنية القادرة على دخول شراكة حقيقية مع العالم وتبادل المنافع معه بما يجعله يطمئن إلى أن بلادنا ليست تابعة أو مستفيدة دون أن تقدم المعرفة. ونقل التكنولوجيا من خلال الشراكة مع مؤسسات وشركات الدول المتقدمة هدف رئيس، فهي الاستراتيجية التي يتم من خلالها ترجمة نتائج العقول إلى الواقع.. ونقل التكنولوجيا في صورته النافعة هو «زراعتها» في التربة الوطنية، أي إيجاد البيئات الحاضنة وترسيخ التقاليد العلمية في الأبحاث ووضع الآليات والضوابط الكفيلة بمحاكاة الأبحاث وتقييمها وإخضاعها للمعايير العلمية التي تخلصها مما يشوب الكثير من الأبحاث في المجتمعات النامية حيث تضخم الأشياء ويبالغ في قيمها لأهداف غير علمية، وهناك فرق كبير بين «زراعة» العلم واستثماره وبين «شرائه» والتجمل بنتائجه.. نظرة مطمئنة من السمات المطمئنة على الرؤية التي قامت عليها هذه الشراكة الاستراتيجية أنها خطط لها مبكرا بشكل ملحوظ، فكل المشاركين ذهبوا إلى واشنطن وهم يعرفون برنامجهم ومن سيلتقون، وكان الجانب الاقتصادي هو الأبرز في مشروع الشراكة الاستراتيجية للقرن الواحد والعشرين، ففي القطاع الصحي هناك شركات معنية بالرعاية الصحية والصيدلة، وتحتاج إلى الخبرات في هذا المجال الذي تنفق عليه الدولة الثروات الهائلة لكنه ما يزال دون المأمول، والاتفاقيات التي وقعت تفتح الباب لشركات متخصصة في مجالات صحية وطبية متعددة مثل: النظم البيولوجية ومعالجة إصابات الدماغ وما يرتبط بها من أجهزة إلكترونية متقدمة في الاتصالات وتحليل البيانات ورصد حالات الارتجاجات ورعاية المصابين بها، وهناك شركات رائدة في الطب النووي وإنشاء المراكز المتخصصة للتصوير الضوئي والتدريب في هذا المجال. وقطاع الإسكان يحظى باهتمام الدولة كما يشغل حيزا كبيرا من احتياجات المواطنين والتجربة التي تخوضها الجهات المعنية بهذا القطاع تشير إلى أننا في حاجة إلى تسريع الإنجاز فالطلب في ازدياد والعرض لا يواكب هذه الزيادة.. وآليات حل مشكلة الإسكان ليست في توفير الأراضي – كما يعتقد البعض وإن كانت جزء منها – لكنها منظومة تدخل فيها بيوت التمويل الكبيرة صاحبة الخبرة في توليد منتجات تلبي طلبات الناس والشركات الكبرى المتطورة في التخطيط والتنفيذ والتشغيل والشراكة مع أصحاب الخبرة خطوة جيدة لإيجاد آلية تسهم في معالج الموضوع في الوقت الملائم. هذه إشارات سريعة إلى بعض ما ورد في مشروع شراكة عميقة متسعة ومتشعبة لقرن كامل بين دولتين مهمتين، وأعتقد أن الاستراتيجية للقرن الواحد والعشرين تستحق أن تعقد حولها حوارات ونقاشات مستمرة تكشف أبعادها وثمراتها على الحاضر ونتائجها على المستقبل.