لم تكن مفاجأة أن تعلن السفارة الإسرائيلية بمصر إشادتها بحلقات مسلسل (حارة اليهود) وبتمثيل اليهود بطبيعتهم الإنسانية، «كبني آدم قبل كل شيء»، وأن تعلن السفارة عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي، (فيس بوك)، إنها تبارك هذا العمل. وسر عدم المفاجأة أن المسلسل يقدم بالفعل ولأول مرة في الدراما المصرية صورة رومانسية مدهشة لشخصيات يهودية عاشت في مصر في حارة تحمل اسم (حارة اليهود) بجوار شارع الموسكي وتتبع حي الجمالية القديم. والمسلسل الذي كتبه الدكتور مدحت العدل وأخرجه شقيقه محمد العدل توفرت له إمكانيات إنتاجية سخية لإبراز الفترة التاريخية وتحديدا عام 1948م مع حشد جيد من الممثلين والممثلات، واختيار الفترة التاريخية له دلالته الخاصة، حيث إنها مرحلة نهاية هذا التعايش بعد قيام الحرب واحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، وهي أيضا نهايات فترة احتلال مصر من الإنجليز والتمهيد لحركة 23 يوليو ووضعية اليهود وتأثرهم بالأحداث بعدها. المسلسل يقدم أسرة يهودية متدينة بحياتها الكاملة وطقوسها وصلواتها وأعيادها مع انصهارها وسط المجتمع المصري من مسلمين ومسيحيين وصولا لقصة حب رائعة طرفاها الفتاة اليهودية (ليلى) والشاب المسلم (علي) الذي يعمل ضابطا بالجيش في هذه الفترة وسط غيرة وحقد فتاة مسلمة أخرى هي (ابتهال) ابنة أحد الفتوات بالمنطقة والتي تسعي طول الوقت لخطف علي من ليلى لأنها بدورها وقعت في هواه، مع استخدام حيل همجية عنيفة تتسق مع بيئة والدها (الفتوة) لتفريق الحبيبين وهو نفس ما تسعى له أسرة ليلى التي ترى أن زواج يهودية بمسلم أمر مستحيل دينيا رغم ذلك الانصهار والانتماء للمجتمع المصري. وتتداخل التفاصيل والحكايات لتقدم لنا عرضا بانوراميا للمجتمع المصري في هذه الفترة، الذي يغلي بحكم ظروفه السياسية من حيث الاحتلال من جهة وقيام حرب فلسطين من جهة أخرى، بما أفرزه من تداخل للجيوش العربية المحدودة والمفككة نسبيا مع الإشارة للأسلحة الفاسدة. وفي نفس السياق نشاهد أرضية المجتمع المصري المشبع بصراع الفتوات من جهة، الذي يقدمه موازيا لغارات الألمان على مصر وكأن كلاهما مرادفين لحقبة من القهر والذل، حيث الإتاوات من الإنجليز ومن البلطجية في الداخل وغارات الحرب في الخارج ومقدمات الحرب الأخرى في فلسطين، فنرى البلطجي (العسال) والد ابتهال في لحظات الغارة الحربية على مصر وهو يقود غارة أخرى على حواري المنطقة هو وعصابته. فشخصية ابتهال ابنة البلطجي العسال مثلا، شخصية سيئة الخلق وهمجية مثل أبيها في مواجهة شخصية رومانسية هي ليلى اليهودية التي تضطر للدفاع عن مريم المسيحية في مواجهة عنف ابتهال بل وتواجه خطة ابتهال لتشويه وجهها بماء النار، كما أن ليلى أيضا مثقفة تقرأ لسارتر وسيمون دي بوفوار وهي شخصية جريئة وواثقة من نفسها ولها مواقف واضحة وشريفة في موقفها من احتلال فلسطين والتعدي على حقوق الغير، فهي بالفعل أفضل شخصية في المسلسل وتكتسب تعاطفا وحبا من كل المتابع للعمل فهي (حبيب الروح) كما تقول كلمات عبدالوهاب وكما وصفها حبيبها البطل وهو يحتضنها، ويتابع المشاهد في المسلسل طقوس الذبح اليهودية وسط كلمات توراتية من نوعية (لأن الدم هو الحياة) وكذلك طقوس الصلوات في المعبد اليهودي ويوم السبت والطعام والتدين وسط الشموع والهدوء وطقس رائع ولقيمات مغموسة يطعم بها هارون أهله، في مواجهة مشاهد أخرى يبدو أنها قادمة من خلال التترات عن عنف آخرين ينتمون لفصيل آخر من المجتمع المصري. وقد نجح إخراج محمد العدل في تقديم طقس جيد للصورة والأجواء العامة للعمل بمساعدة تصوير وإضاءة مميزة كما شاهدنا قصة الحب بين علي وليلى التي تشبه قصص الحب الشهيرة التي ولدت في الحربين العالميتين الأولى والثانية في عشرات الكلاسيكيات والروايات والأفلام بمشاهد القطار واللقاءات السريعة المسروقة مع منحها نكهة محلية بمشاهد الحارة في الخلفية أو الأهرامات ونزهة بالكارتة وغير ذلك، كذلك أداء منة شلبي، إياد نصار، وريهام عبدالغفور، وهالة صدقي، وسيد رجب، وأحمد حاتم، ووليد فواز، وسامي العدل. ويبقي أن (حارة اليهود) هو واحد من الأعمال الفنية الجادة والمهمة سواء اتفقنا مع أفكاره أو اختلفنا معه، وهو نموذج لما يجب أن تقدمه الدراما الحقيقية بعيدا عن ترويج العنف والبلطجة والشذوذ والألفاظ السوقية التي غزت معظم أعمالنا الدرامية مؤخرا.