النفس البشرية معرض غامض وثقوب سوداء تخفي المتناقض في السلوك الإنساني، بألوانه وأشكاله وتقلباته، وهو معرض بالغ التعقيد والغموض، خفي الأسرار، بعيد الأغوار، يحار المرء في كنهه ويعجز عن تفسير إشاراته ورموزه، ولهذا يغري بتأمل موجوداته، ففيه نلتقي الوضوح الصريح المعبر إلى جانب الغموض المشوش المحير، الخطوط المستقيمة الدالة والدوائر المتشابكة المبهمة، كما ترى فيه الألوان الناصعة المفرحة والقاتمة الكئيبة.. في لوحات هذا المعرض تجد رعونة الاضطراب وسكينة الاتزان، حرارة العاطفة المتوهجة وبرودة العقل الفاحصة، فيه بصيرة الحكمة وجنون الطيش، نهر العطاء المتدفق وجفاف الشح المحتبس، يصافحك في ممراته تسامح الأخيار الأنقياء وتزعجك دسائس الأنذال الحاقدين.. في هذا المعرض العجيب ترى الرفعة في أسمى تجلياتها والوضاعة في أخس انحداراتها، إلى جوار الشهامة في أعلى درجاتها والخسة في أحط دركاتها. في جوانب من هذا المعرض تواجهك أوساخ من مخزون التجارب السيئة وآثار النشأة الخاطئة ورذائل البيئة الحاضنة التي تغوص في حنايا أصحابها، فلا يستطيعون التخلص منها أو غسل سمومها مهما علوا في التعليم أو المناصب. ومن مفجعات هذا المعرض أن النفس البشرية لديها قدرة فائقة على ارتداء الأقنعة وتغييرها والانغماس في تمثيل الأدوار المخالفة لطبيعتها وتوجهها، حتى تتماهى مع البيئة من حولها، فترى النذل الجبان يتفاخر في ميدان النبلاء الشجعان، والخسيس الوضيع يتبجح في ساحة الرفعة والشرف، والخائن المتآمر يسعى للوقوف في صفوف الأوفياء المخلصين، والمنافق المتزلف يتظاهر في ثوب الناصح الأمين، حتى كادت المفاهيم والقيم تختلط وتغيب الفواصل بين الفضيلة والرذيلة وبين الخير والشر. ومن أسف أن هذه «الأقنعة» تنطلي على الكثيرين، فلا يدركون حقيقة أصحابها إلا بعد فوات الأوان. ولكن من حسن الحظ أن المجتمعات السوية لديها مناعة طبيعية ومكتسبة لكشف نقائص هذا المعرض وما فيه من علل وانحرافات، ولديها سلم قيم يضع أصحاب الأقنعة في المكان اللائق بهم، حتى وإن تخفوا لفترة من الزمن، فإن مصيرهم وتاريخهم وذكراهم ستذهب حيث تدفن العلل والأمراض.