بعد أن أكملت قراءة الكتاب بأجزائه الأربعة وجدت ما يشبه الكنز المليء بالمعلومات التي لا يستغنى عنها، فأردت أن أشرك القارئ أو على الأصح إعطاؤه لمحة موجزة لبعض المواقف الغريبة أو الطريفة التي تعرض لها شيخنا محمد العبودي منذ بداية تدوينه لهذه المذكرات من عام 1363ه/ 1944م. وقد قدم للكتاب ابنه الدكتور محمد المشوح صاحب منتدى ومكتبة الثلوثية بقوله إنه طلب وألح على الشيخ تدوين سيرته الذاتية الشخصية والعلمية والعملية، رغم معرفته أنه لا يملك وقته، فقد نذر نفسه ووقته وجهده للعلم والعمل والثقافة والفكر، وقال ضمن ما قاله عنه: أنه أول قيِّم للمكتبة ببريدة، وأول مدير للمدرسة المنصورية ثاني مدرسة ابتدائية تفتح في بريدة. وأول مدير للمعهد العلمي ببريدة ثاني معهد علمي يفتح بالمملكة. وأول موظف يعين في الجامعة الإسلامية بالمدينة. وأول أمين عام للجامعة، وأول مسؤول في رابطة العالم الإسلامي يقوم بزيارات لكافة أنحاء العالم لتفقد أحوال المسلمين. وقال الشيخ العبودي في تقديمه للكتاب: «.. فإن ما جاء في الكتاب ليس ترجمة شخصية أو سيرة ذاتية لمؤلفه؛ لأن لديه نية لكتابة سيرته الذاتية بعد أن يترك العمل الحكومي، ولكنه حكاية لما صادفه أثناء حياته في الوظيفة الحكومية في تلك المدة المديدة». وقال: «.. وليس ذلك لأن المؤلف قد أتى بما لم يأت به الأوائل، وإنما لكون كثير من الأمور أو أكثر الأمور في بلادنا غير مكتوبة... بل إن الحالة العامة في البلاد ستبدو للناظر فيها من أهل الجيل الجديد غريبة تستحق أن يطلع عليها، وكأنما هي حالة بلاد أخرى غير بلادنا». ووعد أن يذكر الأمور مجردة، وأن يكون منصفا، وسوف يذكر الحقيقة مجردة سواء أكانت له أو عليه، وسواء كان محباً لوقوعها أو كارها له. قال إنه عاد إلى التعليم مدرسا في المدرسة الوحيدة في بريدة عام 1366ه بعد أن تركها بسبب تباعد زملائه من طلبة العلم عنه، بل وأصبحوا يحتقرونه، فبدل طلبه العلم تحت ركبة الشيخ في حلقات المشايخ بالمساجد ليصبح فيما بعد قاضياً كبيراً أصبح معلم صبيان، وسمع من أحدهم قول الشاعر: معلم صبيان يروح ويغتدي على ثوبه ألوان ريح فسائهم يقول أنه بدأ بكتابة مذكراته من هذا العام أي قبل ثلاثة وسبعين عاماً فكان يكتبها فترة ثم يدعها ثم يعود لها بعد ذلك، وقال: «.. ومما كتبته ما أنقله هنا بدون زيادة أو نقص أو حتى تصرف في العبارة لأنني أعتبر أن هذه الكتابة في ذلك الوقت هي أيضاً جزء من تاريخ حياتي الذي لا يجوز المساس به». وقال بعد أن رافق الشيخ عبدالله بن حميد في زيارته للملك عبدالعزيز بالرياض عام 1367ه: «كانت رحلة ممتعة رغم أنها كانت شاقة، وقد سجلت فيها لأول مرة في حياتي بعض ما صادفناه مما سوف أذكره في كتابي (عن الرحلات)، حيث لم أكن أظن أنني سوف أرحل بعد ذلك إلى جميع أنحاء العالم وأكتب في الرحلات من أعداد الكتب ما لم يسبقني إليه أحد قبلي ممن كتب في هذا الفن باللغة العربية على الإطلاق، إذ بلغ ما كتبته منها (167) كتاباً طبع منها (123) كتابا..». وقال إنه بدأ يتجه للكتب الأدبية مع صديقه علي الحصين واشتركا في الصحف والمجلات الأدبية مشاركة في نسخة واحدة ثم بدأ بشراء الكتب الأدبية بصفة مشتركة أيضا، وقال: «.. ولم نكن نختلف على من تكون له النسخة، ذلك بأن صداقتنا قد بلغت مبلغا تجاوز ذلك..». وقال إنه وجد في المدرسة مجالا أو متسعا من الوقت شجعه على كتابة مذكرات يومية واظب عليها دهرا كما يقول: «والغريب أن ما اعتبرته منها تافها لا أهمية له في ذلك الوقت لأنه يتناول أحداثا ووقائع كانت معتادة لنا هو الذي صار مهما عندما صرت أقرأ ما كتبته منها.... وقد بدأت منذ عام 1367ه كتابة المذكرات المذكورة على هيئة يوميات معظمها تافها؛ لأن عملي ليس كبيرا من جهة، ولأن مدينة بريدة التي أقيم فيها ليست عاصمة المملكة... وقد كتبت من هذه اليوميات مقدارا صالحا من الصفحات، وإن لم أجرؤ على أن أزعم إنه صالح من حيث النوع. ومع معرفتي بذلك، فإنني عندما رجعت إلى تلك المذكرات بعد مضي 50 سنة على كتابتها خيل إلي أن الجيل الجديد من أبنائنا وبناتنا الذين لا يتصورون كيفية الحياة على وجه التفصيل في تلك الحقبة البعيدة من عمر البلاد... لذلك وجدتني أضم أشتاتها في كتاب، جمع غثها وسمينها إن كان بها سمين أسميته (يوميات نجدي) لأنني لم أغير فيها شيئاً..»، وقد أورد أمثلة من هذه اليوميات، ابتداء في يوم الخميس 8 صفر 1368ه عندما ذهب ليتسلم عمله الجديد (إدارة المدرسة الثانية) وهكذا... وعندما ذهب منتدبا إلى (الرس) ليشرف على امتحان الشهادة الابتدائية عام 1369ه نجده يأخذ معه مجموعة من الكتب والمجلات يقرؤها وقت فراغه يذكر منها: حياة الرافعي للعريان، والجزء الأول من وحي العلم للرافعي، وعددين من مجلة أخبار الحرب والعالم، وعددا في مجلة الاثنين، وعددا من مجلة المختار. وآخر من مجلة آخر ساعة، ومجموعة مجلة (الضياء) للشيخ إبراهيم اليازجي، ورواية أحمد بن طولون لجرجي زيدان. كل هذا الكم من الكتب والمجلات أخذها معه ولفترة وجيزة ولمدة محدودة وفي وقت مبكر لا تصل فيه المجلة أو الكتاب لمثل هذه المنطقة بسهولة ورغم أنه لم يذهب للاستراحة والاسترخاء، فقد ذهب ليؤدي عملا دقيقا ومهما مع ما يلزم من زيارات مجاملة وقبول دعوات من الأهالي والمسؤولين في الرس. علما بأن مدير المدرسة الوحيدة بالرس عبدالله العرفج ومساعده علي الضلعان لا يتركانه بمفرده إلى وقت نومه، هناك أشياء مهمة تستحق أن تذكر ولكني مضطر أن أتجاوزها خشية ملل القارئ. يقول: إن أول مقال أدبي كتبه في مجلة المنهل عام 1371ه/ 1952م. وقال إنه عند مرافقته للشيخ عبدالله بن حميد للسفر إلى الحجاز لإنهاء بعض القضايا المتأخرة في محاكم المنطقة في النصف الأول من عام 1372ه قال: «... هذه المذكرات اليومية لم أكن أواظب عليها في بعض الأحيان، وإن كنت أحرص على أن لا أدعها بدون أن أكتب فيها إلا حينما كنت في بلدتي بريدة فارغ البال مرتاح الخاطر.. أما الآن فإنني كما سبق أن قلت لا أتمكن من الكتابة فيها كما كنت أتمكن إلا قريبا مما كنت أتمكن قبل ذلك، وإنما أختلس الكتابة فيها على قلتها اختلاسا وأقتنص الفرص المؤاتية لذلك اقتناصا؛ لأنني مشغول في أكثر ساعات الليل والنهار المناسبة للكتابة». وقال إنه علم بتعيينه مديرا للمعهد العلمي ببريدة، وهو ثاني معهد يفتح بالمملكة بعد معهد الرياض. ونعود ليومياته التي نجده يشكو من انشغاله عنها في التجهيز لافتتاح المعهد العلمي، يقول في بداية الجزء الثاني من كتابه «... في يومياتي التي لم أكتب منها شيئاً مهما في الرياض لكثرة أشغالي بالاستعداد للمعهد، وسوف أذكر بعد هذا تلك اليوميات من دون تصرف فيها؛ لأنها تدل على أشياء كثيرة من الأمور المتعلقة بافتتاح المعهد، بما لم يذكر في مكان آخر». ويفتتح المعهد رغم تأخر بداية الدراسة بسبب تأخر وصول المدرسين المصريين، فيصل الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم مدير معهد الرياض، وشقيق المفتي وهذا يستحق موضوعا مستقلا، خصوصا معارضة طلبة العلم للمعهد ورفضهم الدراسة أو التدريس فيه بسبب المدرسين المصريين الذين يخشون على عقيدتهم منهم، وكذا تأقلم المصريين وتعاملهم مع أبناء البلد ويذكر العبودي أن راتبه يعادل براتب الشيخ عبداللطيف مدير معهد الرياض وهو ألف ريال عدا علاوة الغلاء وهي 25%، فكان يقبض ألفا ومائتين وخمسين ريالا، وأربعمائة ريال متفرقة (نثريات). فيقول إنهم يقبضون رواتبهم بالريالات الفضية، إذ لم يتم التعامل بالورقية، فكان يرسل راتبه إلى بيته ويحمله «.. أقوى الفراشين الذي لا يكاد يحمله حتى إذا فتح الباب له أحد الأطفال رمى بهذا الكيس الفضي الضخم الذي هو من الخيش القوي على الأرض فاهتزت من وقع سقوطه عليها وهذا راتب شهر واحد»، وقارن راتبه براتب أمير منطقة القصيم، وهو ثمانمائة ريال فقط في ذلك الوقت، وراتب قاضي القصيم الذي هو شيخه عبدالله بن حميد هو خمسمائة ريال. وجاء شهر رمضان 1374ه وجاءت فكرة هذه اليوميات وتم تنفيذها بعد أن فكر وقدر بمدى فائدة ما سيكتبه فقال إنه لم يجد الشجاعة الكافية إلا في رمضان، إذ كان شهر رمضان الماضي 1373ه قد استغله بتعلم اللغة الإنجليزية وتلاوة القرآن الكريم. وقال إن المعهد العلمي يقيم الندوة الأدبية مساء كل جمعة من بعد صلاة العشاء وحتى منتصف الليل، وكان يحضره الأهالي مع الطلاب والمدرسين وقد يتجاوز عددهم ألف شخص، وذكر من الطلاب الذين تفوقوا في الإلقاء في النادي عبدالعزيز بن عبدالله التويجري رئيس تحرير جريدة القصيم فيما بعد وصالح السليمان الوشمي نائب رئيس النادي الأدبي بالقصيم فيما بعد ووالد الدكتور عبدالله الوشمي رئيس نادي الرياض الأدبي سابقا، وأمين عام مركز الملك عبدالله العالمي لخدمة اللغة العربية حاليا. سأضطر إلى التوقف هنا رغم أن هناك الكثير مما يستحق أن يذكر، فربما أعود لذكر المزيد.