ها هي فلسطين تنضم إلى المحكمة بصورة هادئة وسلسة ورشيقة، والأمور باتت أوضح من أن يتمكن أحد تقويلها أو الافتراء على مقاصدها أو النيل من أهميتها. هذا كله أولا..، أما ثانيا فإن ثمة ما يجب توضيحه في معاني هذا الانضمام ودلالاته التي يمكن أن تكون قد غابت عن الرؤى والتحليل المسؤول. لعل أهم ما يجب تركيز الاهتمام عليه هو أن إسرائيل ليست عضوا في نظام روما، وأن أية «تحقيقات» تجريها إسرائيل من أجل قطع الطريق على الإدانة الدولية أو التمهيد لهذه الإدانة، باعتبار أن المحكمة إذا رأت أن السلطات المحلية قامت بتقديم المتهمين لسلطات القضاء المحلية وفق المعايير الدولية لا تعد بحاجة للنظر في القضايا المرفوعة، وإسرائيل ليس لديها هذه الإمكانية وبالتالي لا طائل من محاولات إسرائيل على هذا الصعيد. أما فيما يتعلق بجريمة الاستيطان فهي جريمة ثابتة في سياسات إسرائيل، وعلى لسان معظم رموزها الرسميين، وتفرد لهذا الاستيطان الميزانيات الرسمية المعلنة وتستخدم في تنفيذ سياسات الاستيطان الجرافات التابعة للجيش إضافة إلى القوات العسكرية والشرطة وكافة الأجهزة المعنية. ومصيبة إسرائيل هنا أن الاستيطان في القانون الدولي هو جريمة حرب، وكانت إسرائيل تراهن على إمكانية الالتفاف على قضية الاستيطان من خلال «الادعاء» أن الأرض الفلسطينية ليست «محتلة» وإنما هي أرض متنازع عليها. بعد اعتراف الأممالمتحدة بدولة فلسطين فقدت إسرائيل مرة وإلى الأبد إمكانية المناورة على هذا الصعيد، وأصبح قرار محكمة العدل الدولية حول الجدار والاستيطان وهو رأي استشاري قرارا يضع إسرائيل في الزاوية التي لم يعد أمامها أية وسيلة للتنصل منها. وما يجب الإشارة إليه هنا هو أن مفهوم الرأي الاستشاري لا يقلل من أهميته، لأن المقصود به هو ضرورة أن تأخذ الدول الموقعة على الاتفاقيات الخاصة بهذا الشأن باتت ملزمة بأخذ ما ورد في هذا القرار إما بعين الاعتبار أو أخذه وتبنيه بالكامل. وأما المصيبة الأكبر لإسرائيل على هذا الصعيد هي أن الإدارة الأمريكية نفسها ليست قادرة على إسعاف إسرائيل لأنها (أي الولاياتالمتحدة) ليست منضمة إلى ميثاق روما. كل منظومات الأمن والجيش والمستوطنين سيكونون عرضة للاتهام، وليس أمام إسرائيل في هذه الحالة سوى الحجر عليهم لكي لا يتم اصطيادهم في كل ولاية جغرافية وسياسية لكافة الدول الموقعة على ميثاق روما. باختصار إسرائيل أمام مأزق كبير وهي وإن كانت قادرة (وهي قادرة فعلا) على التأثير السياسي على أوساط كثيرة في أوروبا بما في ذلك الجهاز القضائي، إلا أن هامش المناورة الإسرائيلية على هذا الصعيد محدود ومحصور وربما عديم الأهمية أيضا. كما أن الحرب على غزة موثقة بالصوت والصورة والجرائم التي تم ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني في القطاع لا يمكن التحايل عليها.. إذن إسرائيل في مأزق جديد لكن أهمية ذلك بالنسبة لنا كفلسطينيين أبعد من كل هذا وربما أكثر أهمية. نحن عندما نخوض هذه المعركة في مؤسسات القانون الدولي فإننا في الواقع نكون في عملية مجابهة حامية.. وقيمة هذه المجابهة هو في كونها «جزءا تكامليا» من رؤى وأهداف وسياسات وأدوات متوافق عليها وطنيا وفي إطار استراتيجية وطنية شاملة. باختصار فلسطين أمام عملية ربح صافية، أما إسرائيل فهي أمام خسارة مؤكدة صافية أيضا.. المعركة طويلة وشرسة ولكن إسرائيل تعرف أنها دخلت مأزقا غير مسبوق، وأصبح الموضوع خارج السيطرة، وهذا هو جوهر التحول الكبير الذي يعنيه دخول فلسطين إلى المحكمة..