في سجون المباحث العامة التي زرتها يقبع شباب في عمر الزهور خلف القضبان، هم من العائدين من جحيم (داعش) طواعية، اختاروا السجن هنا عن الحرية المصطنعة هناك، كل منهم يختزل في ذاته قصصا أقرب للخيال فيما لا يزال صراع المشاهد المأساوية التي اقترفتها أيادي الدواعش تخلق نوعا من الاضطراب النفسي في ذاته وتجعل كلا منهم يخاف الكوابيس حين يغمض عينيه لما مر به من مشاهد مقززة مرعبة مخالفة لكل قيم ومبادئ الدين والإنسانية. وخلال جولتي في 3 سجون للمباحث حرصت على لقاء العائدين من داعش لمحاولة فك شفرة السؤال: لماذا يتوجه الشباب إلى تنظيم داعش المجرم بكل أبعاده وأوجهه، لأخرج بعدة انطباعات منها بأنه يريد أن يتمدد كسلطة تنفذ الشرع، وتفتح الفتوح كمقدمة للخلافة. وهذا الطرح البسيط والمباشر يستهوي كثيرا من الشباب المفتقر لإشباع الرغبة بالانتماء الكامل للهوية الإسلامية الاستعلائية. وغالب الشباب لا يحبون التأصيل المعقد في التدرج في الانتقال للخلافة وتستهويهم هذه اللغة البسيطة والمباشرة، فيشعرون بانجذاب قوي تجاهها. وبقدر ما يرى كثير من المراقبين تصرفات ومواقف تنظيم داعش تطرفا وتساهلا في التكفير والدماء، فإن بعض الشباب المتحمس الذين ينظرون لها كتصرفات ومواقف مثالية تشبع فيهم رغبة الانتقام من الجور والظلم، لاسيما أن روايات بعض من التقيت بهم تقود صوب أن كثيرا من الشباب المنخرط في تنظيم داعش من فئة الساخطين والناقمين على أوضاعهم في بلدانهم وأنهم يعيشون بلا هدف ويفتقرون إلى الإحساس بالهوية أو الانتماء. وهذا يبدو شائعا في معظم الجنسيات، لذا يرون في (داعش) فرصة العيش في مكان تطبق فيه القواعد والسلوكيات وفقا لتعاليم الإسلام بحسب الفهم السطحي أو الذي روجته تنظيمات التطرف. ولأن معرفة الشباب الصغير بالدين غالبا ما تكون سطحية فهم لا يشككون مطلقا في سلطة قادتهم ويصدقون ما يقال لهم. بينما الشباب الأكثر نضجا هم من يدركون أن واقع الحياة في ظل جماعة متطرفة أبعد بكثير عن أي مثالية دينية، وهذا هو أحد الأسباب التي تؤدي إلى رجوع بعضهم وأحيانا بعد وقت قصير جدا. عائد من الموت للحياة وعلى سرير أبيض في مستشفى وفرت به كافة الخدمات الطبية الراقية داخل سجن مباحث الدمام، كان يرقد الموقوف الشاب (ب . ع)، دخلت عليه فأقرأته السلام، رد مبتسما، وهو مسجى على ظهره، لا يستطيع الجلوس، لم تبد عليه ملامح التشدد، بل كان بسيطا وهادئا وفرحا برؤيتنا حوله، قال: «ربما تستغرب فرحتي هذه لكنها من القلب والله بعد أن عدت للحياة وقد رأيت الموت بأم عيني، غلطة في حياتي حين فكرت بالالتحاق بداعش، كنت أخالهم يدافعون عن الحق ويبحثون عن نصرة المظلومين لكني صدمت بعد تجربة دامت لعام ونصف، هؤلاء يعشقون الدماء والقتل ولا يفرقون بين مسلم وكافر، لم أجد فيهم مخافة الله والتقوى بل رأيت فيهم الفساد في الأرض»، كانت كلماته تلك تهز كل مشاعري فعلا لأنها كانت تخرج من عمق معاناة وهنا قاطعته وقلت كيف خرجت من الحدود وكيف عدت؟. أجابني: «أنا شاب لم أتجاوز سن 24 عاما بعد، لم يكن لي أي ميول مع أحد، كنت أتتبع فقط ما يجري في الربيع العربي من ثورات، وكنت أتعاطف مع ما يحدث في سوريا من قتل وتشريد للبسطاء والضعفاء، تفاجأت بانضمام أحد أقاربي للتنظيمات المقاتلة هناك، كان قريبا مني كثيرا وغاب سريعا، كنت أتواصل معه وكان يطلب مني اللحاق به للجهاد والانخراط في تنظيم داعش، لم أقاوم الفكرة كثيرا وقررت الخروج، كانت أمي تشعر بتغيير في نمط حياتي وكانت قلقة علي بحكم معرفتها بعلاقتي القوية من قريبي هذا، كانت تخشى أن أغادر المملكة وتبكي كل يوم وتوصيني بعدم الانسياق وراء الأبواق، لكن ذات مساء قررت السفر ودلني صاحبي من سوريا على طريق الخروج، حيث قصدت تركيا ومن ثم دخلت الحدود السورية وقابلت صديقي». يضيف: «كنت أرصد حراك التنظيم، لكني صدمت من تصرفات وسلوكيات غريبة جدا، كان أميرهم في أحد المواقع يطالبنا بقتل الناس وعدم الرحمة بأحد كائنا من كان، وكان يأمرني بمحاولة سبي النساء، وهو أمر لم أتفق معهم فيه، شعر رفيقي بعد عدة أشهر بعدم قناعتي ببعض الأمور وهنا قال لي لا تظهر مقاومة سيقتلونك فورا، لم أكن أؤمن بذلك لكن رأيت عملية تصفية لأحد السعوديين أمام عيني بعد أن انتقد أمير التنظيم واختلف معه، كان أمراء التنظيمات هناك يبيعون دماء السعوديين تحديدا بثمن بخس، عندها قررت الهروب وانتهزت الفرصة وخرجت صوب الحدود التركية، وتعرضت لإصابات في قدمي أثناء هروبي، حيث أطلق علينا النار في عدة مواقع، ولكن الله أنجاني من الموت وعدت لوطني وحظيت برعاية طبية فائقة هنا». الشباب حطب الصراع لم تكن قصة ذاك الشاب هي المحرك الوحيد لفضولي في لقاء عائدين من مواطن الاقتتال، فخلال جولتي داخل سجون المباحث العامة صدفت عدة عائدين من جحيم داعش والموت، حيث كان الموقوف (خ . ن) يتلقى العلاج أيضا في سجن ذهبان، بعد عودته مصابا بجروح من آثار القتال وهنا يروي ل(عكاظ) قصته فيقول: «نشأت في أسرة محافظة معتدلة، لكنني لم أكن أواظب على أداء الصلاة ولم تكن الأمور الشرعية تشغل حيزا في تفكيري واهتمامي، ظللت كذلك حتى تخرجت من الثانوية العامة، وحينها تعرفت على مجموعة من الأصدقاء كان لهم اهتمام بما يدور في العالم من حراك، بدأت فكرة الجهاد تراودني لاسيما مع متابعتي ما تبثه الفضائيات من أخبار عن تقتيل الشعب السوري من طرف نظام الأسد، كانت مشاهد القتل والتعذيب تستفز مشاعري، وكنا كمجموعة أصدقاء نقضي ساعات طويلة في تحليل تلك المشاهد وهنا تسللت فكرة الالتحاق بتنظيم داعش، كان هذا قبل عام ونصف تقريبا، رصدنا بعض المقاطع في اليوتيوب لأبطاله هناك وتنامت قناعاتنا يوما تلو آخر وهنا قررنا الالتحاق أنا وصديق لي بالتنظيم عبر السفر لتركيا ومن ثم الدخول لسوريا والبدء في الجهاد، لاسيما بعد أن شاهدنا مقطعا في اليوتيوب عن أقوى وأسرع اقتحام لحاجز مدرع من قبل قوات كوماندوز لواء الإسلام ضمن ما أسموها معركة الخضوع لله عز وجل التي أطلقها لواء الإسلام في القلمون، لكن بعد أن قضينا عدة شهور هناك أدركنا أن ثمة انحرافا في هذا القتال، وغيابا لمفاهيم الجهاد وتحول الأمر لصراعات شخصية ونصرة لبعض القيادات وكنا حطب كل تلك الصراعات، عندها وبعد إصابتي بطلق ناري في قدمي قررت العودة لوطني وتسللت للحدود وسلمت نفسي هناك». يضيف: «مهما وصفت لكم ما يجري هناك لن تتخيلوا، تصفيات جماعية وإبادة وقتل واغتصاب للنساء وأحداث لا تمت للدين والإنسانية بصلة، لا بد أن تكون هناك توعية كبيرة من المجتمع للوقوف ضد هذه التنظيمات الغريبة في سلوكها، على شبابنا أن يفيقوا من الغيبوبة وأن يقفوا في وجه من يروج لهذه المجموعات المتطرفة التي لم ترحم أحدا ولا تعرف دينا ولا رحمة مطلقا». تجنيد الإعلام للقتال وفي غرفة داخل سجن الحائر تردد الموقوف (ص . ق) في الحديث ل(عكاظ) عن تجربته في المشاركة في الصراعات الخارجية، حين وقفت على باب غرفته، لكني قلت له: «نريد منك حقيقة ما جرى للعظة والعبرة، لاسيما أن بعض شبابنا لا يزالون يتجهون لتلك المواقع»، حينها قال: «أنصح الجميع بعدم الخروج من هذه البلاد مطلقا، هناك فتنة لا يمكن وصفها، القتل والعنف هما سيد الموقف، وقد التحقت بهم قرابة عامين أدركت بعدهما أن هذه فئة ضالة لا تؤمن بغير القتل، لن أنسى توسلات بعض من قتلوا أمام عيني، رجالا وشبابا في عمر الزهور». يواصل رواية ما جرى له فيقول: «لم أفكر يوما في الالتحاق بسوريا، خاصة أني حديث عهد بالزواج، وكنت أفكر في مستقبلي وعائلتي، لكن ما غير حالي هو مشاهدتي لشريط مصور على موقع التواصل الاجتماعي، المصحوب بأناشيد حماسية عن عملية استهداف لمواقع نظام الأسد وهنا قررت أن أكون ضمن أبطال القتال هناك، لم أجد صعوبة في الخروج فهناك من يسهل مهام خروجك، لكن بعد وصولي هناك وتعايشي مع واقعهم أدركت أني في طريق خطير، كلفت بالجهاد الإعلامي - كما يقال - حيث كنت ممن يوثقون كافة العمليات بالمركز الإعلامي، وكانت مهمتنا في البداية هي تصوير غارات النظام السوري، ثم طلب منا تصوير خسائر الجيش السوري في معاركه مع الجيش الحر. لكن بعد ذلك تحولت مهمتنا لتصوير قتل الأسرى والمعتقلين وهذا ما جعلني لا أطيق ما جرى، حيث كان التنظيم يقتل الصغار والكبار في همجية لا مثيل لها وهنا قررت الهروب منه والعودة لوطني فورا».