شوقي بزيغ لم أضع هذا العنوان في صيغة الاستفهام لمجرد استمراء هذه الصيغة التي تجعل القارئ منجذبا لمعرفة الجواب، ولا من قبيل تجاهل العارف، باعتباري مشتغلا بالكتابة، بل لأن سؤالا كهذا يمتلك الكثير من المشروعية في ظل تعدد هويات الكاتب، وفي ظل انقسام الأنا على نفسها كلما واجهتها إشكالية محيرة أو مأزق وجودي. لقد كُتب الكثير حول ماهية الكتابة وطبيعتها ووظيفتها. وكتب الكثير أيضا حول العلاقة بين الشكل والمعنى، الموضوع والأسلوب، والكم والنوع، قبل أن يتفق معظم دارسي الأدب على أن سؤال الإبداع الأكثر أهمية هو «كيف تكتب» لا «ماذا تكتب». وكان الجاحظ قبل قرون عدة قد أولى الأسلوب الأهمية الأكبر في تقييم النص وتقديم بعضها على بعض، باعتبار أن المعاني متاحة للجميع ومطروحة في الطريق. ومع أن السؤال المتعلق بالأنا الإبداعية كان هو الآخر محط أنظار النقاد والباحثين، وبخاصة أولئك الذين اشتغلوا على سوسيولوجيا الأدب وعلم النفس الأدبي، فإن واقع العلاقة بين الكاتب والنص هو واقع ملتبس ومتشعب وآهل بالوعورة بحيث يختلط الكاتب والفنان على الناس كما على نفسه، ولا نستطيع أغلب الأحيان أن نرد الكتابة إلى مستوى بعينه من مستويات السلوك البشري، أو إلى منطقة بحد ذاتها من مناطق الظاهر والباطن. وما يجعل الأمر مدعاة للارتباك هو أن لا صلة واضحة بين سلوك الكاتب ونصه. فالكثير من المبدعين يظهرون في سلوكهم اليومي قدرا من التهذيب والاستقامة يفوق التوقع، فيما تذهب نصوصهم إلى الخانة الضد حيث يتم كسر المحرمات والانقلاب على القيم السائدة والخروج على «النص» الأخلاقي المتداول. وهنا يحق لنا أن نسأل بصدق: من الذي يكتب؟ وهناك بالمقابل كتاب وفنانون مزاجيون وشديدو العدائية والصلف وفاقدو الاتصال الحميمي بالآخرين، فيما تشي قصائدهم وأعمالهم بالكثير من الشفافية والعذوبة التي نتلقفها بأعمق الشغاف. ويحق لنا أن نتساءل بالتالي عن المكان الذي توجد فيه الأنا الحقيقية للكاتب، وأي نسخة من نسخ هذه الأنا هي المزورة حقا! هناك من ناحية أخرى كتاب ومبدعون وقفوا على المستوى الأيديولوجي ضد ثورات شعوبهم ورغبتها في التحرر، كما فعل بلزاك في تأييده لنابليون الثالث ضد كومونة باريس. لكن أحدا من الروائيين الفرنسيين لم ينتصر في رواياته لحركة القوى الاجتماعية المقهورة والطامحة إلى التغيير، وينفذ إلى أحشاء المجتمع الفرنسي الممزق بين الخيارات، كما فعل بلزاك في رواياته. وهنا يجوز لنا أن نسأل أيضا: من الذي يكتب؟ وكيف عارض النص الأدبي توجهات كاتبه؟. وثمة بالمقابل من انتصر لمقاومة بلاده ضد الظلم، كما لمقاومات العالم وسائر قضاياه المحقة، ولكن نتاجه الأدبي كان من المحافظة والرداءة بما يضاهي أكثر الكتاب الرجعيين تماهيا مع الضحالة والزخرف المحنط، وهو حال العشرات من الكتاب العرب الذين لم تكد الأيديولوجيا الحزبية التي روجت لنصوصهم تؤول إلى التراجع حتى اختفوا بالكامل عن الخارطة الإبداعية العربية. ولنا في هذه الحالة أن نطرح السؤال إياه عن ماهية الأنا التي جعلت الكتابة في أدنى اهتماماتها الحقيقية. ستكون لدينا قائمة طويلة حول تناقضات الكتاب والكاتبات، الذين لا يكاد بعضهم يجيد النطق بجملة صحيحة على الصعيد الشفهي، بينما يذهب في الكتابة إلى أقاصي كشوف التخييل. وحول من يذهبون في النقد النظري إلى تخوم المغامرة الحداثية ويمعنون في قتل الآباء، بينما لا تفعل نصوصهم شيئا غير إحياء الآباء واستنساخهم بشكل حرفي. أغلب الظن أن جانبا من الكتابة لن يبارح منطقة الالتباس الغامض والشكوك التي يقين لها. كيف لا ونحن أنفسنا نجهل حين نجلس للكتابة ما سوف نكتبه. ولا ندرك ماهية ما كتبناه إلا بعد أن ننهض من غيبوبة الداخل. وهو ما يعبر عنه بشكل رائع قول مارغريت دوراس «أعتقد أن الشخص الذي يكتب لا يملك الكتاب. إن يديه خاويتان ورأسه فارغ. وهو لا يعرف من مغامرة الكتاب إلا الكتابة الجافة العارية، بلا مستقبل ولا صدى».