أكد الأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي أن الأمة الإسلامية ابتليت من بعض أبنائها في مراحل من عصورها بمن يحمل أفكارا منحرفة وهو يرى أنه ينصر بها الدين، ومن هذه الأفكار انتهاج تكفير المسلمين واستسهاله، فيرمي المسلم أخاه المسلم بالكفر لمجرد اختلاف في وجهات النظر، أو لعدم موافقة الموصوف لمن أطلق عليه هذا الوصف. وقال في حوار مع «عكاظ» إن المجمع الفقهي عقد العديد من المؤتمرات التي تستهدف التصدي للأفكار المنحرفة، ووضع ضوابط وحلول لهذه المشكلة ومنها، تعميق الشعور لدى المجتمع والأفراد بأهمية منصب الإفتاء، وأنه ليس إبداء للآراء الشخصية، أو تحكيما للعقل المجرد، أو استجابة للعواطف النفسية، أو تحقيقا للمصالح الدنيوية المتوهمة، بل هو تبيين لما شرع الله سبحانه وتعالى لعباده من شرائع وأحكام بأدلتها، وتأسيس الفتوى على علم صحيح مبني على الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما من إجماع أو قياس صحيح أو أصل شرعي معتبر.. فإلى الحوار: كيف تشخص واقع الأمة من خلال ما ابتلي به بعض أبنائها في فتنة التكفير والأفكار المنحرفة؟ ابتليت الأمة الإسلامية من بعض أبنائها في مراحل من عصورها بمن يحمل أفكارا منحرفة وهو يرى أنه ينصر بها الدين، ومن هذه الأفكار انتهاج تكفير المسلمين واستسهاله، فيرمي المسلم أخاه المسلم بالكفر لمجرد اختلاف في وجهات النظر، أو لعدم موافقة الموصوف لمن أطلق عليه هذا الوصف. منهج التكفير وهل هناك منهج للتكفير، وهل هو مستجد؟ منهج التكفير منهج سابق الوجود حادث الآحاد، وقد برز في مجتمعنا المعاصر في العقود الأخيرة واستفحل ضرره، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصلة الذميمة، وبين عواقبها الوخيمة، حيث قال: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». وقال: «من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» أي رجعت عليه. والتكفير متضمن لاستباحة عرض المسلم الذي أكد على حرمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». فيتضح من هذه النصوص أن من يتسرع في إطلاق الكفر على أحد من المسلمين فقد ارتكب جرما عظيما في حق نفسه قبل كل شيء، وفي حق أخيه المسلم؛ إذ إنه في حال عدم صحة هذا القول تعود هذه الكلمة على قائلها، فيكون كافرا، وهذه نتيجة وخيمة جدا والعياذ بالله. فإطلاق الكفر على آحاد المسلمين أو عامتهم، أو على الحكومات ونحو ذلك ذو أثر كبير وخطير، وهل أخطر من أن تعود على قائلها فيصبح كافرا مآله جهنم وبئس المصير إن لم يتجاوز الله عنه. إن التكفير مزلق خطير ومنهج لم يسلكه في تاريخ الأمة الإسلامية إلا الغلاة الذين جعلوه وسيلة لتحقيق مآربهم السياسية والعقدية، وارتكبوا بواسطته مآسي كبيرة جدا أخطرها استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم. أسباب التكفير وما أبرز أسباب الوقوع في ذلك الخطر؟ أسباب التكفير الجهل بالعلم الشرعي، فإن الجاهل يسهل التلبيس والتأثير عليه من دعاة السوء وأصحاب الأهواء المنحرفة وصرفه عن الحق إلى الباطل، وسبيل السلامة لهؤلاء أن يسألوا الثقاة من حملة العلم الشرعي ويرجعوا إليهم فيما التبس عليهم، كما قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). أو أن يطلبوا العلم على أيديهم. وقلة منهم عنده شيء من العلم ولكن الخطأ يأتيه من جهة عدم الدقة والدربة في تنزيل النصوص الشرعية والقواعد العلمية على الواقع الذي يريد أن يحكم عليه، وهو يرى تزكية رأيه دون أن يعرضه على العلماء مع أن النصوص الشرعية التي يرى أنها حجة له، ويعتمد عليها ليست على درجة واحدة من حيث وضوح دلالتها على الموضوع المراد الحكم عليه، ومعرفة ذلك لا يتأتى إلا لمن درس مناهج العلماء لمعرفة استنباط الأحكام بناء على قواعد وضعت لتفسير النصوص لبيان معاني الألفاظ ودلالاتها على الأحكام، وقد ذم الله تعالى من يجادل بغير أسس ثلاثة؛ هي: العلم، والهدى، والكتاب المنير، قال تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير). ولذا قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: «ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله». مبررات واهية قد يتذرع هؤلاء التكفيريون ببعض المبررات الواهية، كيف نرد عليهم؟ نعم، قد يرى بعضهم التذرع فيما ذهبوا إليه بفساد المجتمعات وظهور بعض المخالفات، ولكن التذرع بهذه الدعوى لا يكون مسوغا للتكفير وما يترتب عليه من إرهاب، فقد خرج أمثال هؤلاء وادعوا دعاوى باطلة في عصر الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل العصور فخطأهم الصحابة وردوا باطلهم وحكموا بضلالهم، ولم يعتبروا احتجاجهم بهذه الذرائع. ويضاف إلى ذلك التساهل والتسرع في إصدار الحكم بالكفر مع عدم الوعي بمآلات هذا الحكم، وما يترتب عليه من آثار سيئة. وكذلك الحماس الزائد الذي لا مبرر له والذي يؤدي بهم إلى مزالق خطيرة تفضي بهم إلى ما لا تحمد عقباه، والخطر كل الخطر هو التأويل غير المنضبط بضوابط الشرع، والذي هو محض تصور عقلي للنص يتحول إلى حكم شرعي يتعبد الله به، وقد يكون له نتائج بالغة الخطورة، كما أشرنا فيما سبق، دون أن يدركوا هذه النتائج وتلك المآلات؛ كحكم قتل النفس المؤمنة، وعقاب هذا القتل. والطامة الكبرى اعتقادهم أنهم مخولون بتنفيذ الأحكام المترتبة على الكفر حسب زعمهم، دون الرجوع إلى ولي الأمر أو القضاء، ولقد جرت فتاوى التكفير على الأمة الإسلامية الويلات؛ إذ ترتب عليها انتشار التطرف والإرهاب، ومن أخطر الأمور إساءتهم للإسلام؛ بل إن وسائل الإعلام المعادية للإسلام تعمدت استغلال هذه التصرفات فنشرت على الملأ بأن الإسلام دين الإرهاب؛ وذلك بسبب التصرفات الطائشة من بعض المنتسبين إليه، والذين هم في الحقيقة خارجون عليه، وتصرفاتهم ليست من الإسلام في شيء بل إنها مصادمة لأحكام الإسلام، وافتيات على الإمام وجماعة المسلمين ونشر للفساد في الأرض وتعميم للفوضى فأطلقت هذه الوسائل سهاما مسمومة ضد الإسلام. ضوابط وحلول هل أورد المؤتمر ضوابط وحلولا لمثل هذه القضايا؟ نعم، منها تعميق الشعور لدى المجتمع والأفراد بأهمية منصب الإفتاء ، وأنه ليس إبداء للآراء الشخصية، أو تحكيما للعقل المجرد، أو استجابة للعواطف النفسية، أو تحقيقا للمصالح الدنيوية المتوهمة، بل هو تبيين لما شرع الله سبحانه وتعالى لعباده من شرائع وأحكام بأدلتها، وتأسيس الفتوى على علم صحيح مبني على الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما من إجماع أو قياس صحيح أو أصل شرعي معتبر، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، وقوله (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)، وقوله تعالى (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) وقال صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين». ومن الحلول والضوابط التي وضعها المجمع، التحوط البالغ في الحكم بتكفير أحد من المسلمين، فلا يجوز تكفير مسلم إلا بإتيانه ناقضا من نواقض الإسلام، لا يقبل تأويلا، فإن تكفير المسلم من أعظم ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما»، والحذر من الفتاوى الضالة المضلة التي تدعو الناس إلى سفك الدماء المعصومة بغير حق، والتأكيد على أن حفظها من أعظم مقاصد الشريعة الغراء، قال تعالى :(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). ومن الحلول أيضا، وجوب اتباع ما ورد فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه الحق والعدل، ولا حق ولا عدل في غيره، ولأنه المصلحة، ولا مصلحة فيما سواه، وما قد يظن مصلحة مما يصادم النص ليس في الحقيقة مصلحة، بل هو أهواء وشهوات زينتها النفوس، وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح، قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، وقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، فالأقوال والأعمال توزن بميزان الكتاب والسنة الصحيحة، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان. قال الشافعي رحمه الله: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد». ومن الحلول التي وضعت أيضا لمعالجة هذه المشكلات، الحذر من الحيل الباطلة للوصول إلى استباحة المحرمات في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» متفق عليه. وقد نقل الثقات إجماع الصحابة على تحريم الحيل الباطلة، وإجماع الصحابة من أقوى الأدلة وآكدها، وكذلك التحذير من الفتاوى الشاذة المصادمة لنصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة الصالح ومن الأخذ بها، أو تقليد صاحبها، أو نقلها والترويج لها؛ لأنها مخالفة للشرع. ولا تعد خلافا معتبرا في المسائل الشرعية. كما أن المنهاج الشرعي مبني على الوسط، لا على مطلق التشديد، ولا على مطلق التخفيف، والحمل على ذلك هو الموافق لقصد الشارع، وهو منهج السلف الصالح، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ويجب هنا التأكيد على أهمية الثقة بفتاوى العلماء الربانيين والاطمئنان إليها، ونشرها في المجتمع؛ لما لها من أثر كبير في حمل الناس على المنهج الوسط في الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وإبعادهم عن الغلو والتشدد، والتساهل والانحلال، كما يجب قيام المفتين بواجباتهم والتصدي للفتاوى الشاذة والرد عليها؛ لما في ذلك من مصالح للإسلام والمسلمين، ومنها، وحدة الأمة، وحفظ هويتها، واجتماع كلمتها على الشريعة الإسلامية، الحفاظ على وسطية الأمة في دينها، وإظهار الصورة الحقيقية للإسلام، اطمئنان أفراد المجتمع الإسلامي إلى ما يصدر منهم من فتاوى، الحد من الغلو والتطرف والتساهل والانحلال، تعرية المذاهب والشعارات الإلحادية والتكفيرية ونحوها، واستتباب الأمن في المجتمع المسلم، وحقن دماء المسلمين، وحفظ أموالهم وأعراضهم. وأكد المجمع من خلال المؤتمر على أهمية المجامع الفقهية، وسائر مؤسسات الفتوى، والاجتهاد الجماعي، عملا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واستنادا لمنهج الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، وضرورة الاهتمام بالقضايا التي تتعلق بمصالح الأمة، وتتصف بطابع العموم الذي يمس المجتمعات كافة، وتخرج عن القضايا الفردية إلى القضايا المتنوعة والعامة، تتطلب اجتهادا جماعيا، يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر، قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). وأخيرا، فإن البيان والنصح من قبل العلماء وطلاب العلم الشرعي واجب عظيم، ونفعه كبير؛ إذ إنه من أهم وسائل إصلاح المجتمعات.