لم يحصل في تاريخ المنطقة أن توسعت الامبراطورية الفارسية، كما يحدث هذه الأيام، ولا حتى في عصر الأكاسرة قبل الإسلام، ربما ولا حتى في عصر الهكسوس 1500 قبل الميلاد. الآن نرى امبراطورية الملالي تسيطر على العراق، في ما يزعمون أنه استعادة للعراق من العرب! ومن العراق تمددوا إلى سوريا بمساعدة الجيب الذي زرعوه في لبنان، لتكتمل سيطرتهم على الهلال الخصيب من البصرة في العراق إلى طرابلس في لبنان. أيضا، ولأول مرة، منذ فجر الإسلام، يتواجد الفرس في اليمن، حيث يحكم الحوثي بتوجيهات المندوب السامي الفارسي في سفارة إيران في صنعاء. في الأسبوع الماضي، وتأكيدا على هذا التحول الاستراتيجي غير المستقر الذي أحدثته إيران في المنطقة، بدأ الحرس الثوري الإيراني مناورات عسكرية كبرى، هذه المرة لم تقتصر على الخليج العربي ومضيق هرمز، بل إنها شملت بحر عمان وبحر العرب ووصلت حتى خليج عدن! لتكمل، بذلك، إيران حصارها الاستراتيجي على مشرق العالم العربي من حدود تركيا شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا. إيران لم تعد تهدد صادرات النفط العربية من الخليج العربي، بتحكمها على مضيق هرمز، بل وأخذت تهدد تجارة العالم العربي مع العالم، بدعم تواجدها البحري في منطقة جنوبالبحر الأحمر ومضيق باب المندب باستئجارها لثلاث جزر تابعة لإريتريا وسيطرتها الكاملة على مرفأ ميدي على البحر الأحمر، الذي يعد قاعدة الإمداد الرئيسية للحوثيين في اليمن بالسلاح والمؤن. طموحات استراتيجية خطيرة، لنظام الملالي في طهران، تعكس نزعة عدائية للهيمنة الإقليمية على المنطقة تتضاءل في مقابلها طموحات الشاه، التي كانت لا تتجاوز منطقة الخليج العربي. إلى حد بعيد هذا التغول الإيراني في المنطقة لا يتناسب مع إمكانات إيران الاستراتيجية والاقتصادية، حتى لو بلغ الأمر اللجوء إلى النزعة القومية ببعدها الشيفوني المتطرف لدى غالبية الشعوب الإيرانية التي ترزح تحت وطأة إعلام عنصري موجه تستخدم فيه كل أدوات التضليل الفكري والشحن الطائفي لدعم النزعة التوسعية لنظام الملالي في طهران. إيران تعمل كل ذلك في المنطقة واقتصادها يعاني المقاطعة الأممية وصادراتها النفطية لا تجد من يشتريها في سوق النفط الرسمية. كل ذلك قاد لأن يعاني الاقتصاد الإيراني من عوارض الركود والبطالة والتضخم والنقص في محفزات الإنتاج وقلة المعروض من السلع وضعف وعدم كفاءة سوق الخدمات، بالإضافة إلى النظام الأوتوقراطي الطائفي القمعي السائد في إيران المكبل للحريات، المتنكر لأدنى حقوق الإنسان، الذي لم يأخذ من الديمقراطية سوى طقوسها، ولا شيء من مضمونها. إيران بقوتها ومواردها ونزعتها القومية المتعطشة تاريخيا للهيمنة الإقليمية لهي أضعف من أن تعبث بأمن واستقرار المنطقة، بهذه الصورة التي نراها ونعايشها هذه الأيام، ما بالك بإيران المقاطعة دوليا والمحاصرة اقتصاديا والمعزولة سياسيا. في حقيقة الأمر إيران ما كان لها أن تصبح عامل عدم استقرار خطير في المنطقة لولا الوضع العربي المتردي الذي يمر به النظام العربي، هذه الأيام. في عز جبروت سطوة نظام الشاه وقف النظام العربي بزعامة الرياض والقاهرة، بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، ذودا عن عروبة البحرين واستقلالها. في بداية الثمانينيات وقف النظام العربي، أيضا بقيادة الرياض والقاهرة، دون أطماع إيران التوسعية غربا، وفشلت إيران في حرب ضروس استمرت ثمان سنوات من اقتحام البوابة الشرقية للعالم العربي. إيران، إذن: بإمكاناتها الذاتية الضخمة، وحتى مع تواطؤ دول عظمى مع أطماعها لم تكن قادرة على اختراق البوابة الشرقية للعالم العربي، منذ الفتح العربي للعراق وفارس، وحتى اندلاع ما يسمى بالثورة الإسلامية في طهران نهاية عقد السبعينيات الماضي. لكن اليوم استطاعت إيران المقاطعة اقتصاديا والمعزولة سياسيا والمنهكة داخليا، أن تتواجد في عمق أراضي العرب في سورياوالعراقولبنان واليمن.. وأن تجري مناورات في بحار العرب، لتعبث بأمن العرب ومصالحهم! النظام العربي الرسمي، هذه الأيام، يمر بأسوأ فترات تطوره الحديث منذ إنشاء الجامعة العربية. إن عبث طهران بأمن العرب القومي، هذه الأيام، الذي لم يحدث بمستوى هذه الخطورة الاستراتيجية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، دليل على أن العرب في حال من التراجع قوميا واستراتيجيا. إن محاولات الفرس هذه الأيام للثأر من العرب تتجاوز محاولات التتار والصليبيين، من قرابة ألف عام ويماثل تقريبا ما فعله الفرنجة في عرب الأندلس، منذ أكثر من خمسة قرون.