على أرائك وثيرة، وفي جو إنساني خال من لوثات الفكر المتطرف داخل صالون ثقافي فكري، أمضيت نحو ساعتين في حديث ذي شجون مع موقوفين أطلقت عليهم فرقة «مميزين» حيث خصصت لهم ساعات أسبوعية للتلاقي المفتوح فيما أسماه الموقوفون «coffe ذهبان» يضاهي في الطرح والشفافية بعض اللقاءات المفتوحة التي تتم في جدة مثل الاثنينية الثقافية كما قال لي أحد الموقوفين مداعبا «عكاظ». فبعد جولة طويلة داخل مرافق السجن، كنت أسعى لمعرفة الانطباع عن الحوارات السائدة في هذا الصالون حرصا مني على استقصاء المعلومات من أفواه النزلاء، وفجأة وجدت نفسي معهم نتحاور بكل شفافية، كانت الحيرة تتغشاني فعلا، وكنت قاب قوسين أو أدنى من التردد في الدخول للصالون، فالجلوس مع موقوفين أمنيا قد يحتاج لإعداد من نوع خاص جدا، لكن فضولي الصحافي كان سيد الموقف فقررت طرق باب الصالون والدخول على نحو 30 موقوفا أمنيا. كانت الصورة الذهنية التي بداخلي أني سأجلس مع فقهاء يملكون الحجة الدامغة في الطرح وتغطي وجوههم اللحى الكثيفة ولغة إقصائية حادة لا تقبل الرأي الآخر وربما يرفضون الحديث معي لأني حليق اللحية. لكن ما حدث لم أكن أتوقعه، دخلت عليهم لأسمع أصواتهم تتعالى بالترحيب، أهلا ب«عكاظ» ومرحبا بك يا علي، سلمت عليهم واقتربت منهم للمصافحة فقابلوني بالأحضان وكانوا من قبائل شتى وهيئات لا تتقارب ففيهم الملتحي وأغلبهم حالقي ذقون. انتهيت من السلام عليهم وجلست أمامهم وقفز للذهن سؤال خاطف: كيف عرفتم أنني من «عكاظ» وكيف عرفتم اسمي فجاوبني أكبرهم سنا: «عكاظ» معنا كل يوم يسمح لنا بقراءة الصحف ونتابع مشاكساتك الصحافية اليومية وأبلغنا من إدارة السجن بأن «عكاظ» ستزورنا ففرحنا بكم بيننا، هنا تبسمت ونظرت لمدير السجن الذي ظل واقفا طوال الحديث فقال لي: «نعم يسمح لهم بمتابعة الصحف والقنوات الفضائية وكل ما يمكنهم من معايشة المجتمع الخارجي». نظرت إليهم وقلت: نريد أن نعرف واقعكم المعيشي هنا وقصص وصولكم للسجن ولكم الحرية فيما تقولون وسننقل ما تريدون للمجتمع الخارجي بكل أمانة وموضوعية فكانت البداية: الرؤية السوداوية الموقوف أ.ع.غ الذي أمضى نحو 12 عاما في السجن، تحدث ل«عكاظ» في جلسة «كوفي ذهبان» وهو أحد المستفيدين من برنامج المميزين داخل أسوار السجن فقال: «نعيش وضعا مرضيا هنا، فالتعامل من إدارة السجن جيد وحسن الخلق من كافة منسوبيه معنا خلق نوعا من الحميمية التي تراها، نلتقي في هذا المكان كل أسبوع مع بقية الموقوفين، نتجاذب أطراف الحديث ونتناقش ونمضي ساعات حوارات متصلة، ندرك كلنا أن ثمة بقعة سوداء في حياتنا، فقد أخطأنا بحق أنفسنا وحق وطننا ولكن ها نحن ندفع الثمن والحمد لله على العودة للطريق السليم، قبل أن يتطور الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، كل ما نريده من المجتمع فقط أن لا ينظر إلينا من زاوية واحدة بل لا بد أن يدرك أن ثمة جانبا مضيئا في عودتنا للحق، ونحن جميعا لسنا على فكر واحد فقد تعدل المسار وأدركنا طريق الحق، والحقيقة أنه مما يحز في النفس أن نقرأ أو نسمع أن المشمولين بالعفو في السجن من خلال برامج كبرنامج المناصحة والمطلق سراحهم قد عادوا للفكر المنحرف، فالنسبة كما عرفنا قد تلامس 12% لكن هذا ليس مبررا لتعميم الرؤية السوداوية على الجميع فهؤلاء لا يمثلوننا لقد عرفنا الخطأ وأدركنا فداحة الأمر وعدنا للصواب فهل يتقبل المجتمع منا ذلك؟». عقدة المؤامرة تلاحقنا كانت لغة هذا الموقوف الحزينة وتساؤلاته التي وجهها للمجتمع محل إثارة في نفوس من حوله من الموقوفين المميزين، وهكذا التقط الحديث منه الموقوف (أيمن.ز) وقال وهو يتنهد: «نتمنى أن تزول فكرة المؤامرة من الفكر المجتمعي، نحن لا نميل للاستعطاف للخروج بل نروي الحقيقة والله على ذلك شهيد، تعبنا من طريق الضياع وشتتنا أنفسنا وأسرنا وها نحن ندفع ثمن الاندفاع وراء السراب، تسع سنوات مضت من عمري وأنا هنا وسأمضي سنوات مقبلة، لقد خسرت كثيرا حيث طلقت زوجتي قبل 6 أشهر ولدي 6 أطفال، وكل ما أتذكر مستقبلهم وحياتهم أشعر بالندم لدخولي في طريق مجهول قادني للسجن، أتذكر يا أخ علي وأنا أحدثك حياتي كيف كانت طبيعية وكنت أعيش سعادة غامرة بين أهلي وأقاربي قضيت نحو 40 عاما لم يكن هناك ما ينغص حياتي حتى خطفت فكريا وبدأت في اعتناق الفكر المنحرف حقا وها أنا أمضي حياتي خلف القضبان بعد أن فرطت في حق الله ونفسي والوطن. لذا فإنني أحذر كل شباب الوطن من الانسياق وراء الأبواق التي تنادي بالدخول في الشبهات وأسألهم بالله أن يدركوا خطورة الأمر، فما يراد بالمملكة وشبابها أمر خطير جدا وقد عشنا ذلك وعرفناه ونحذر منه من تجربة واقعية». عطف الدولة أنقذنا وفي ثنايا الحديث المؤلم عن قصص الضياع التي انتهت بالموقوفين إلى غياهب السجن، يرفع يده شاب طرق باب الثلاثين من العمر، يلبس نظارة ويتسم بالهدوء وتكسو محياه بسمة جذابة ليشاركنا الحديث فيقول (أمين.غ) الموقوف بعد ضبطه متورطا في أحداث شقة الخالدية في مكةالمكرمة «ما حدث لنا من تجربة مريرة في طريق الظلام هذا هو بمثابة حصانة دائمة لكل من ألقى السمع من شبابنا لصوت الظلام، لا بد أن تكون في تجربتنا عظة وعبرة لهم، لقد مررنا في طريق كاد ينتهي بنا إلى الهلاك لولا رحمة الله بنا ثم عطف الدولة علينا، ففي ضبطنا خير لنا وحين نسمع عن ضحايا الحروب الخارجية في مواطن الفتن والاقتتال وتحول شباب في عمر الزهور لحطب فيها والله إننا نذرف الدموع ونبكي حرقة عليهم وعلى أنفسنا، لأننا نعرف كيف تم استدراجهم وكيف غسلت أدمغتهم وليس من سمع كمن رأى، مررنا بنفس التجارب لذا فإن نصيحتي لكل ذي لب من شباب الوطن بأن يبدأ حياته من حيث انتهينا بمعنى أن لا يكون ضحية للتغرير والضياع والهلاك تحت مبررات وأوهام ترتكز على الخلط في استيعاب المفاهيم الدينية والالتباس. لا بد أن يدرك كل شاب في وطننا الغالي أن المساومة بالدين والوطن خط أحمر فلا يكن الواحد منهم تبعا لمن لهم أهداف خارجية». كرامة حقيقية وحياة جديدة وبلغة أقرب للهجة العامية البحتة، وقف الموقوف (جمال.ش) ليقسم أمام زملائه الموقوفين وضباط السجن و«عكاظ» وهو يقول: «أقسم بالله العظيم أننا لا نخاف أحدا ولا نهاب من ضباط السجن ولا من المباحث وكذلك فإننا لن نقول سوى الحق، لقد رأينا في السجن حياة جديدة وكرامة حقيقية وتعاملا راقيا، الدولة ورجالاتها لم تقصر في حقنا ونحن من قصر في حق وطنه، لقد رأينا هنا جميل الخلق عكس ما كنا نتوقع، لقد عرفنا هنا المعاني الحقيقية للتعامل الإسلامي بعد أن كنا نتوقع أن نضرب ونتعرض للإهانة والجلد اليومي خصوصا في جلسات التحقيق لكن حدث خلاف ذلك تماما، وجدنا هنا كل الاحترام والتقدير، وكلامنا هذا الذي سينشر في عكاظ وهي الصحيفة الأقوى والأكثر انتشارا كما نعلم هو عين الحقيقة وليس زيفا ولا زورا ولا نفاقا ولا خوفا أو تزلفا، ليس لدينا يا أخ علي ما نخسره هنا لذا لو كان الواقع خلاف ذلك لشهدنا به، ووصيتي لكافة أبناء الوطن التي أريد منكم إيصالها عبر عكاظ أن يكون الجميع رجال أمن للحفاظ على أمن بلادنا فوالله لو اختل الأمن لرأينا العجب العجاب والله لن نستطيع الصلاة في المساجد والمشي في الطرقات وهذا الكلام أقوله وأنا أعرف نوايا أعداء المملكة، فالرجاء منكم إبلاغ نصيحتي هذه للجميع». وبنظرة تفاؤل للمستقبل أدار الموقوف (ع. آل. ز) بوصلة الحديث صوب القادم من الحياة وهو يعد أن يكون عضوا فاعلا في المجتمع وقال: «لا يمكن أن نجرد ذواتنا من الخطأ فقد دخلنا بيوت العنكبوت الواهية وعشنا في كهوف الظلام بين أصحاب فكر متشدد وتكفيري، كنا باختصار ضحايا الاندفاع والحماس غير المنضبط، لم نكن ندرك أن بين الحياة والموت مساحة كبيرة من العطاء الخيري والمجتمعي الكفيل بإحياء الأرض، كانت النظرة قاصرة فعلا، لكن جاء فرج الله وحمايته لنا بعد أن قبض علينا وأودعنا السجن وكانت فرصة الجلوس مع النفس والمراجعة والتأمل، ونحمد الله أننا لم نتورط في سفك الدماء ولهذا سنقدم حين نخرج منها إن شاء الله تجربة ثرية للمجتمع، سنكون سفراء توعية وخبراء نقل تجربة، لقد تعلمنا أن من سجن وفي نيته الإصلاح الحقيقي سيدرك الحقيقة ويفيق من غيبوبة الضمير ويصحو في داخله العقل القادر على إرشاده لدرب الصلاح فعلا، أمضيت هنا 12 عاما تأكدت من خلالها أن الطريق الذي كنت أسير فيه كان شائكا فعدت للصواب وأتمنى من الله الثبات على درب الحق والحقيقة أن التعامل اللين والحسن الذي لقيناه هو أحد مفاتيح العودة للعقل فعلا». موجة تفاؤل بالمستقبل الموقوف (ياسر.غ) الذي قضى في السجن 10 سنوات، كان يجلس بجوار صديقه (مشعل.ز) طلب المداخلة أثناء الحديث وقال: «نريد أن يصل صوتنا لمن يهمه الأمر، طلبنا هو التوسع فعلا في برنامج المناصحة فقد حقق نجاحا كبيرا، لم أكن أعتقد أني سأكون يوما مستعدا للحديث بلغة تراجع عن فكري فقد كنت أكفر كل من حولي، كنت أبغض رجال الأمن والمباحث لكن بعد انخراطي في البرنامج ورغم رفضي المبدئي له تغير الحال وعدت للصواب، لذا فمن المهم التوسع فيه ليشمل كافة الموقوفين هنا، والله الذي لا اله إلا هو أننا لم نتعرض للضرب ولا للعنف ولا أقل من ذلك ولا أكثر لكن وجدنا أن الحق أحق أن يتبع فعدنا للطريق وأعلنا التراجع عن الفكر التكفيري، والتوبة لله، والحقيقة أن أهلي حين يزورونني هنا أجد منهم التفاؤل والرضا بما وصلت إليه من قناعات وعودة للحق، أجلس مع زوجتي ومع إخواني ووالدي وهم سعداء بأن تركت كل الأفكار الهدامة في هذا المجال». حادثة الاغتيال وتعامل المباحث لم يطل ياسر في حديثه حتى قاطعه زميله في نفس الغرفة الموقوف (مشعل.ز) قائلا: «ليلة لن ننساها في حياتنا أنا وصديقي ياسر حيث كنا في غرفة واحدة في رمضان حين كانت حادثة محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف وسمعنا بالحادثة وتلبسنا الخوف والذعر من ردة فعل رجال الأمن في السجن واعتقدنا أننا سنتعرض للضرب والعنف لاسيما بعد تلك الحادثة الشهيرة، وذلك كما كنا نعرف في المعتقلات الخارجية، لكن حدث خلاف ذلك حيث لم نر أي ردة فعل من رجال الأمن وكان ذلك أحد المواقف التي ساهمت في محاسبة النفس والعودة للحق، الأمر بالنسبة لنا كان غريبا، لكن فعلا كان هذا واقع التعامل هنا». لن نقبل المساومة في الوطن الموقوف (أنس.س.ه) تحدث عن تجربة مختلفة في عودته للحق حيث قال: «لولا رحمة الله بنا لكنا في عالم آخر، التوقيف هنا نجاة لنا وللمجتمع من سوء الأعمال التي كنا نحاول تدبيرها، كنت أعتنق الفكر التكفيري لكني تراجعت عنه بعد قراءاتي لحملة صحافية في جريدتكم عن التكفيريين والتي أذكر أنه شارك فيها مشايخ وعلماء ومسؤولون، كانت تطرح الفكر التكفيري بشيء من التعمق والتحليل وهي سر توقفي عن التكفير والبدء في مراجعة نفسي حتى ضبطت في مداهمة أمنية والآن ولله الحمد ابتعدت عن طريق الضلال وعدت لجادة الحق، لا بد أن أطلق رسالة من موقعي هذا لتصل كل العالم، لن نقبل المساومة في وطننا مرة أخرى، لن نكون أتباعا لأناس هدفهم الإساءة للوطن وقيادته وشعبه، سنكون لبنات بناء فيه في المستقبل ولن نكون معاول هدم». صناع حياة.. لا دعاة موت الشاب الذي قطف ورقة ربيعه الثلاثين وهو الموقوف (مساعد.خ» اختزل تجربته التي أمضى فيها نحو 12 عاما في السجن بالقول: «حين نغادر هذا السجن نعاهد الله تعالى على أن نكون صناع حياة، لا دعاة موت، سنتحول للعطاء في مجتمع يستحق منا العمل والتضحية، لقد مررنا بتجارب مريرة في طريق الضياع وعرفنا الحقيقة فعلا، خطفونا بعض المشايخ برسائلهم الجهادية المزعومة وحولونا لقنابل مؤقتة كانت قابلة لقتل المجتمع ومحاربة الناس لكن رعاية الله وفضله ثم حرص الدولة أنقذنا من الهلاك ورسالتي للشباب في وطننا بأن يجعلوا من تجاربنا عبرة وعظة وأن يعرفوا الحق ويدركوا خطورة ما يحاك بالمجتمع السعودي».