لم تعد «الرقية الشرعية» حكرا على القراء والحفظة لكتاب الله، وإنما دلج لها كل متكسب لمال، كما طرأت على الرقية الكثير من البدع والممارسات التي لا تمت للدين بصلة، فضلا عن اتجاه كثير من الناس للترقي عند من يدعون العلم بها، رغم أن الحديث والمتفق عليه يحث على عدم قصد الرقية عند الغير، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) رواه مسلم. وفي رواية البخاري (لا يرقون). وقد تسبب مدعو الرقية في الكثير من الحوادث والمآسي، وانتهكت في ساحاتها المحارم والمحرمات، وذلك بشهادة رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، الذي أعلن في تصريحات صحفية: تسجيل الهيئة حالات انتهاك لأعراض نساء بذريعة علاجهن بالرقية الشرعية، وقال: «إن الرقية أصبحت صنعة من لا صنعة له، ولا يجوز أن تبقى هكذا، ولا ينبغي كذلك أن يبقى الرقاة على هذه الحال». يشير الدكتور حسن الأزيبي أستاذ الفقه المقارن في جامعة أم القرى، إلى أن هناك الكثير من الرقاة اتخذوا الرقية وظيفة، وهو أمر مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين لم يخصصوا أماكن لرقي الناس ولم يستخدموا فيها مكبرات الصوت وغير ذلك من الأمور التي لا تمت للرقية الشرعية بصلة، بل كان نهج السلف أنهم يرقون الآخرين بتلقائية، وكانوا يرقون أنفسهم. وأضاف: «صحيح أن الله سبحانه وتعالى أنزل لكل داء دواء، لكن لا يجب أن تشد الرحال إلى الرقاة بغرض التداوي، إلا أن ذلك ليس بمحرم، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من يتجنب ذلك قد يكون إن شاء الله تعالى من السبعين ألفا الذين يدخلون بغير حساب. فهذا الحديث حض على ترك الذهاب إلى الرقاة، ولماذا يذهب المرء إلى الراقي ولا يرقي نفسه بنفسه، أو لا يرقي أبناءه ويحصنهم بالمعوذات والأوراد المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم». واستطرد الأزيبي قائلا: «هناك قصص أقرب إلى الخرافة يتواردها البعض عن مدعيي الرقية، وقد يكونون وقعوا في المحاذير الشرعية كالاستعانة بالجن ونحو ذلك من ضروب الشعودة التي يدعي البعض أنها رقية وهي ليست كذلك. وعلى من يصر على الذهاب إلى الرقاة مراجعة أقوال هيئة كبار العلماء في هذا المجال، حيث بينت الأسس الصحيحة للرقية الشرعية والواجب اتباعها لمن أراد العلاج بالرقية الشرعية كي يتجنب المسلم الوقوع في شرك الشعودة والمدعين للرقية. علاقة أم شبهة بدورها أكدت خلود ناصر المحاضرة بقسم علم النفس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة أن هناك علاقة قوية تجمع بين المرض النفسي والشعوذة والكهانة، ولو تتبعنا تاريخ هذه العلاقة لوجدنا أنه منذ العصور القديمة وقد كان ينظر للمرض النفسي على أساس أنه مسح من الجن، أو أرواح شريرة تسكن شخصا ما، أو أن اللعنة حلت عليه من الرب. هكذا كان تفسير من عاشوا في تلك العصور القديمة خاصة في أوروبا، حيث كان المريض النفسي يسجن ويعامل أسوأ معاملة على اعتبار أنه شخص غير جيد وتسكنه أرواح شريرة وبالتالي يجب التخلص منه. وتضيف الناصر: «استمر الإيمان بهذه المعتقدات وهذه الأفكار لدى بعض الأسر حتى وقتنا الحالي حيث إنه يصادف أن كثيرا من أفراد المجتمع يسقطون بسهولة في فخ المشعوذين المدعين للرقية الذين لم ينالوا فرصتهم من التعليم وأوهموا الناس بعلاقتهم القوية بالدين، ووجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء الأفراد دائما ما يلجأ إليهم، وهذا مؤشر خطير يدل على قلة وعي الأفراد وسهولة انقيادهم لكل ما يعرض أمامهم من مشاهد أو يسمعون عنه من قصص تتعلق بما يمارسونه من طقوس وأفعال تغريهم بشفائهم من معظم الأمراض والاضطرابات التي يعانون منها، وأنهم السبيل الوحيد لطرد هذه الأرواح الشريرة التي تسكنهم من جان وغيرهم، والشخص من هؤلاء المغرر بهم، نتيجة شعوره بالعجز وقلة الحيلة واضطراره ولهفته للعلاج وإحساسه باليأس والإحباط نظرا لما يعانيه من ألم وخوف وقلق نجده يتعلق بأي خيط نجاة يراه أمامه دون أن يضع في اعتباره مدى صحة ما يقوم به، فيقع فريسة سهلة الاصطياد من قبل هؤلاء المشعوذين». وترى الناصر أن من أهم الأسباب التي تجعل الأفراد ينقادون بشكل كبير إلى المشعوذين هو وجود الخلط الكبير بين المرض النفسي وبين السحر والمس، وغياب الوعي بوجود أمراض نفسية وعقلية يجب أن تعالج عند الأطباء المتخصصين القادرين على التعامل بكفاءة عالية مع هذه الأمراض، وعدم المعرفة بأهم التفاصيل والأعراض التي تميز الأمراض النفسية، فنجد بعض الأسر لمجرد مشاهدتهم لبعض الأعراض الظاهرة على ذويهم يتسرعون في الحكم عليهم ويصفونهم بأنهم «مسحورون، ممسوسون، مسكونون» ويكونون في الواقع مصابين بأنواع مختلفة من الاضطرابات النفسية أو العقلية من اكتئاب أو فصام أو غيره من هذه الأمراض، بالإضافة إلى خوفهم من الوصمة المجتمعية التي قد تلتصق بهم وتلاحقهم نتيجة أفكارهم السلبية واللاعقلانية حول العلاج النفسي والطبيب النفسي والتي ترسخت في أذهانهم نتيجة ما يعايشونه من ثقافة واتجاهات حول هذا الموضوع، ولذا فإن فكرة الذهاب إلى المشعوذ بدلا من الطبيب النفسي من الأفكار المقبولة والمحبذة لديهم هربا من الوصف بالجنون وخوفا من عزل المجتمع، لافتة إلى أن من ضمن الأسباب التي تجعل الأفراد يفضلون الذهاب إلى مدعيي الرقية هو رغبتهم في الحصول على نتائج سريعة ظاهرة عينية تعطيهم أملا كبيرا في الشفاء حيث إنه من المعروف أن العلاج الدوائي يأخذ فترة أطول من حيث إظهار ملامح الشفاء والنتيجة الإيجابية المرغوبة من قبل أهل المريض، وعلى الرغم من أن شريعتنا السمحة قد شرعت وسائل عدة للتحصين يحصن بها المرء نفسه، إلا أن كثيرا من الناس يفضلون الذهاب إلى الشيوخ ليلقوا الرقية المناسبة. وتستطرد: «في اعتقادي أن مثل هولاء الأشخاص في حاجة ماسة إلى الإيمان بفكرة أن القرآن الكريم ليس حكرا على أحد، وأن يقووا ثقتهم في أنفسهم ويراجعوا نياتهم وأعمالهم، وأن لا يقللوا من كفاءتهم ويضعفوها أمام قدرات الآخرين وصلاح أعمالهم ونواياهم مع الله تعالى، إلا أن البعض قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع أن يفيد نفسه لشدة الأذى والضرر الواقع عليه، الأمر الذي يجعله يشعر بأنه في حاجة ضرورية إلى مساعدة غيره». إيضاح وضوابط من جهته، قال الراقي الشيخ فيصل عوض، إنه من الملاحظ اليوم مدى الانتشار الواسع لكثير من الأمور المحدثة التي أثرت على فئة غير قليلة من المسلمين في شتى أنحاء العالم الإسلامي ومما شاع في زماننا من ذلك تفشي كثرة الأمراض الروحية من (سحر، وعين، ومس شيطاني). وأضاف: «في المقابل تفشى معها فئة من الناس امتهنوا مهنة الرقية فمنهم من وفقهم الله تعالى فنفع الله تعالى به الناس، ومنهم من أضل وأمرض وأهلك كثيرا من الناس، وأقول افترق الناس في العلاج بالرقية إلى عدة فرق فمنهم من تحمل وصبر واحتسب ولجأ إلى الله تعالى وعالج نفسه بنفسه بالدعاء ورقية نفسه، ومنهم من دفعه جهله وقلة صبره وضعف إيمانه للذهاب للسحرة والمشعوذين فسلبوا دينه وأفقروا جيبه، ومنهم من لجأ إلى الرقية عند بعض ممن ينتسبون إلى الرقية والرقية بريئة منهم، فنجد كثيرا من هؤلاء المنتسبين استغلوا جهل وحاجة وطيبة الناس فأصبحوا يمارسون عليهم تجاربهم ويشترطون عليهم شروطهم من المبالغ الخيالية فتاجروا بالدين بعرض من الدنيا والله تعالى نهى عن ذلك فقال سبحانه (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة:44. وقال أيضا (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) البقرة:79، وقال سبحانه (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) آل عمران: 77». ويضيف الشيخ عوض: كما نجد فريقا يحذر من الرقية بكونها تخرجه من السبعين ألفا الذين جاءوا في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن عمران بن حصين الذي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب. قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون). وقد اختلف العلماء في المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: هم الذين لا يسترقون. فقد قال بعض أهل العلم إن القول المختار في ذلك أنهم الذين لا يسترقون الرقى الشركية، أما طلب الرقية الشرعية فليس من ذلك إن شاء الله. ضوابط الرقية الشرعية يبين الراقي الشيخ فيصل عوض هنا أهمية حاجة الناس للرقية ولكن بضوابطها الشرعية لقوله سبحانه وتعالى: (كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق) القيامة:27. وقيل من راق، قيل: هو من الرقية، عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، روى سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون ابن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه. وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري، (أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، فقال جبريل عليه السلام: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك). وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن جابر بن عبد الله يقول: (رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآلِ حزم في رقية الحية وقال لأسماء بنت عميس ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة قالت لا ولكنِ العين تسرع إليهم قال ارقيهِم قالت فعرضت عليه فقال ارقيهِم). وروى الإمام مسلم عن عوف ابن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. واختتم الشيخ عوض قائلا: إن الرقية فضل ورحمة وهبة من الله تعالى لخلقه، فكم شفت وما زالت تشفي بعد الله عزوجل من أمراض استعصت على الطب قديما وحديثا وفي ذلك الكثير من القصص قديما وحديثا وفي كل زمان ومكان الله تعالى يعجز بكتابه العزيز أكبر مراكز الطب والمستشفيات العالمية والدولية.