الإرهاب داء عضال، وسرطان قاتل، وشر مستطير، عم العالم، وآذى المسلمين أكثر من غيرهم، آذننا بحرب معلنة تستهدف بلادنا بكيانها ومقدراتها وأمنها وتنميتها، ولا قدرة لدولة منفردة أيا كانت أن توقف انتشاره إذا استعر؛ فضلا عن أفراد فيها معدودين دون المجتمع كله بكافة مكوناته، بل لا بد من تضافر جهود المجتمع الدولي بأسره ليقف دونه، ويحاربه حربا مشتركة شاملة لا هوادة فيها ولا تهاون، ولا تأخذه بهم رأفة فيها ولا تراجع؛ حربا بما تعنيه الكلمة من معانٍ على كل صعيد؛ وخاصة صعيد الفكر، فلا محل لتيارات فكرية وحزبية متطرفة لا تعترف بهوية الوطن ولا ينتمي ولاؤها إليه مرتهنة في ذلك لشعارات تنضوي تحت مظلات جهات شتى. ولا غرو أن الإرهاب لا دين له ولا مذهب ولا وطن، وليس له عقل يكبح غلواءه، وإنما ارتكازه في الأساس على الغلو، ذلك المستنقع الآسن الذي تولدت فيه معظم التنظيمات المتطرفة على اختلاف أشكالها ومسمياتها ومع تعدد المنتمين لها أو المتعاطفين معها، والتي تهدف في أولوياتها إلى الإساءة إلى هذا الكيان الشامخ في أمنه واستقراره، وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» ، وإنما يهلك الناس إذا تصدر لهم رؤساء جهال فسألوهم فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا. لقد كان الإرهاب نواة ثم ضرب أوارها ذات اليمين وذات الشمال، فاتسعت دوائرها لتجسد ظهور التنظيمات المتطرفة المتعددة، وقودها الأعنف أغرار مجرمون لا يراعون شيخا ولا امرأة ولا طفلا، ولا يقدرون سلطانا في سلطانه، ولا عالما في كرسي علمه، ولا يفقهون في دين الله إلا ما اعترفوا هم بأنه الحق، فهم لا يقيمون لخلاف معتبر وزنا. وفي هذا قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: وأسباب هذا التشدد كثيرة؛ أهمها: الجهل بالخلاف، والكبر، وتعظيم النفس، فالجهل بالخلاف يجعل الإنسان يحسب أن القول الفقهي الذي هو عليه هو الحق الوحيد الذي من خالفه ضل أو كفر أو فسق، والكبر والتعالي وتعظيم النفس تجعل الإنسان يحسب أن ما وصل إليه تفكيره هو الحق الذي يجب على الناس اتباعه. ومن هنا جاء قول الإمام أحمد رحمه الله: (من لم يعرف الخلاف لا تحل له الفتوى)، وكلما غاص الإنسان في بحار الفقه علم صدق هذا القول. لقد قتل الإرهابيون النفس واعتدوا على المال وانتهكوا العرض بناء على ذلك. نسوا وأنساهم الشيطان بأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم خير الخلق بعد النبيين فتحوا البلدان وما اعتدوا على شيء من ذلك البتة، فأي الفريقين أهدى سبيلا. ظنوا آثمين أنهم يتقربون إلى الله بما يغضبه ويحرمه: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)، ولغوا في الدماء، وقتلوا الأبرياء وهم يقرأون: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، ويعلمون كيف اقترن في كتاب الله الفساد في الأرض بسفك الدماء كما في الآية: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). إنهم يقتلون ويقرأون في كتاب الله عز وجل أن التعدي على النفس البشرية يعدل الاعتداء على الإنسانية جمعاء، فقد كتب الله: (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). وقال سبحانه: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما). ويجدون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله عندما قتل بعض أصحابه رجلا كان في صفوف مقاتليه بعد أن قال الرجل لما هم الصحابي بقتله: أشهد أن لا إله إلا الله... فقتله وجاء فرحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقص عليه بطولته، فقال له: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ فقال الصحابي: إنه قالها خوف السيف، فقال النبي له مرة أخرى: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، فعاد الرجل إلى مقالته، كل ذلك والنبي يقول منكرا عليه: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال الصحابي: وددت أني ما أسلمت إلا يومئذٍ. وبلغه أن رجلا آخر من أصحابه قتل أناسا أرسله لقتالهم، فشهدوا شهادة الحق، فلم يقبل منهم، وقتلهم متأولا، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما). وقال: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وقال: (من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا). وروي عنه أنه قال: (قتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا). بل وحرم الإسلام التعدي على الذمي والمعاهد والمستأمن، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما)، وفي التنزيل الحكيم: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعظم النفس وتحرم التعدي عليها بإشارة أو تهديد أو تحريض أو قول أو فعل. على أن أول ما يقضى فيه يوم القيامة بين الناس الدماء. وغالبا ما تقترن جرائمهم تلك بجرائم أخرى كالغدر والخيانة والكذب (إن الله لا يحب الخائنين)، (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)، (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله). ومما يزيد ألم كل عاقل ما حدث ويحدث هنا وهناك من اعتداءات إرهابية تترى تنطوي على خطر جسيم من فئة لم تتذوق قط الحياة في سبيل الله فزعمت كذبا أن تبغي الموت في سبيله، وإذ بهم يقتلون إخوانهم المصلين، مصداقا لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في التحذير منهم: (يقاتلون أهل الإسلام)؛ وهذه تالله ارتكاسة فكرية كبرى. لقد أمسى هؤلاء فريسة سهلة لكل فتان أثيم، وقنبلة موقوتة تتفجر في شرق العالم وغربه، وبات الفكر الضال خطرا يهدد العالم كله بلا استثناء، ويوجب على عقلائه وضع العلاج الناجع له. إن ما يقدم عليه أولئك المجرمون لهو عمل آثم يجب على علمائنا وحملة الأقلام فينا أن يتنادوا لإنكاره، وهتك أستاره، وبيان عواره، وعوار منظريه ومتبعيه على حد سواء. وفرض على الجميع التوحد خلف راية الحق والإمام المتبع مليك هذه البلاد المباركة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، فالصلاة مقامة، والدين ظاهر، والتوحيد معلن، والشرع مطبق. والله أسأل الرحمة والمغفرة لشهدائنا الأبرار المظلومين من حماة الأمن ورجاله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وبرغم ما تحقق، بفضل الله تعالى، ثم بتوجيهات قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي عهده الأمين نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، والأمير مقرن بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، والأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية، ورجال الأمن المخلصين كافة من منجزات أمنية كبيرة هي محل ثقة واطمئنان وفخر واعتزاز من خلال يقظتهم وتضحياتهم وبضربات استباقية للإرهابيين وأوكارهم كان لها بالغ الأثر في منع وقوع الكثير من مخططاتهم وكشفهم وحماية وطننا وأبنائه، بيد أننا جميعا مطالبون أكثر من أي وقت مضى بوقفة حازمة جادة للتصدي للإرهاب كل حسب موقعه بما أوتينا من قوة. وحيث لا مكان أوسط عند محاربة الإرهاب، ولا سيما مع التلاحم الكبير الذي يربط بين الراعي والرعية منذ عهد المؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز رحمه الله، ذلك بأن التلاحم والوحدة محطة لا يمكن أبدا تجاوزها، وتعزيز قيم الانتماء الوطني والولاء للقيادة كمنطلق ديني وأمر رباني استنادا لقول الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، إذ الوطن وحدة لا تتجزأ، والواجب الشرعي حمايته والذود عن حياضه ومحبته: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، وفي مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إنك أحب بلاد الله إلي)، وكذلك العمل على نشر مبادئ التسامح والوسطية التي أمر بها الإسلام، متخذين من قول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحاء)، مع أهمية الإنكار على جميع التنظيمات الفكرية المتطرفة التي نشأت عنها جماعات إرهابية دون مواربة بتسمية بعضها وتجاهل البقية أو التغافل عنها والتغاضي عن الإفصاح ببيان الحق بشأنها والتوعية بأخطارها. مع تطبيق صارم وسريع للعقوبات المقررة على كل من يثبت ارتكابه لأي من الأفعال المجرمة شرعا ونظاما في هذا الصدد. والأهم من محاربة تلك التنظيمات نفسها هو محاربة الأفكار الضالة المنحرفة المغلوطة التي تتبناها والأهداف الخطرة التي تتغياها وأهمها النيل من وحدتنا الوطنية. والله خير حافظا، وهو سبحانه من وراء القصد. (*) وكيل وزارة العدل عضو المجلس الأعلى للقضاء