فجأة، تشعر أن جزءا عزيزا من حياتك قد اختفى.. فجأة يصيبك الانكسار والفشل والهزيمة والتمزق من الداخل، فجأة تشعر أن جلد الرأس وحده وسط العقل هو الذي ينام، بينما تغلي العروق ويفور الدم مختلطا بالذكريات، والصور الأليمة كلها تلدغ وتضرب الأحشاء، وتتعدد أسباب هذه الآلام وتتكاثر لتحيل الإنسان إلى طائر مذبوح، والحياة إلى شريط تسجيل حزين ومذكرة يدون فيها الإنسان أيام الضيق، ويحاول هذا الإنسان أن يصمد بقلبه الكبير منفردا أمام كل ذلك، فيتجه البعض إلى التقوقع والانعزالية والبكاء بدموع عصير الحزن المقطر، فتتسع الشقوق وتتيبس الجدران وتطول الشروخ، وآخرون ينصبون مشانق للضعف ويتحولون فجأة إلى ترسانة صلبة من التحدي والعزيمة، وتجتاحهم قوة غريبة من النضال تفوق أحيانا حجم أجسادهم، ولأن رأس الإنسان ورشة مليئة بمئات الأحاسيس والمشاعر المتضاربة يستعين هؤلاء بقوة من الخارج، فالعذاب والأسية والتجربة القاسية لا تموت، ولكنها تختفي في قاع الذاكرة، فالمسافر الغاضب إلى بلد النسيان لن يصلها دون أن يمر قطاره بمحطة النقاهة، هذه المحطة تخصص جيل من الكتاب الأمريكيين فيها، فأبدعوا وبرعوا في رسم الخرائط المختلفة لأصحاب التجارب القاسية لاستعادة توازنهم، وتميزوا في خلق أدب المواساة وصنع نسيج لثقافة الحزن، فأخذوا يمارسون الفرح في كتبهم بعد أن تخرجوا بتفوق من مدرسة الحزن، فكان لمنشوراتهم الأخيرة صدى عميق في نفوس الجرحى وأصحاب تجارب ( قصم الوسط)؛ كأيام الشدة لا تدوم لروبرت سيشلر، وللأفراح عودة لآن كيزار، وأحزان البيوت ورحلة نقاهة لأوكارل، هذه الكتب ساهمت في جعل المصاب يتعرى نفسيا أمام نفسه دون خجل، ومنحت القارئ سكنا ومأوى؛ لأنها تجارب حقيقة ومعالجة نابعة من رحم الأرض، من أجمل ما قرأت في هذه الكتب قصة (توماس كارليل) تقول القصة إن أحلك أيام ( توماس كارليل) كانت عندما دخل صديقه (جون ستورت ميل) إلى مكتبه وقال له لا أدري كيف أبلغك هذا، ولكن ذلك المخطوط الذي أعطيته لي لأقرأه استعملته الخادمة لإشعال النار، ويقول (كارليل) إن الكارثة جعلته ممزقا ينتابه الغضب أحيانا، والحزن أحيانا أخرى، ثم سيطر عليه في النهاية يأس شديد، يقول: في أحد الأيام نظرت وأنا في أشد حالات اكتئابي من نافذتي فرأيت البنائين وهم يعملون وأدركت أنهم كما يضعون حجرا فوق حجر، فإنني كذلك ما زلت أستطيع أن أضع الكلمة فوق الكلمة والجملة فوق الجملة، وكذا بدأ يعيد كتابة الثورة الفرنسية، وهو الكتاب الذي ثابر عليه، وما زال حتى يومنا هذا من أعظم الأعمال التاريخية ودليلا على الشجاعة التي هزمت اليأس والقنوط.. فإن أحسست، عزيزي القارئ، يوما أن رجليك أفلتتا من حافة شرفة (والناس إلى تحت) يضحكون ويصفرون ويشمتون ويطلقون النكات معلنين ساعة الصفر لسقوطك.. ما عليك سوى أن تلتفت إلى السماء وتوكل أمرك إلى الله وتتلو (أليس الله بكافٍ عبده)، هذه الآية الكريمة ستمنحك طمأنينة وصفاء وقوة لا تزول، والله إنني ما تلوتها يوما إلا قضى الله لي مطلبي، وما استغثت به يوما بها في أزمة أتعبتني إلا أغاثني بأفضل مما توقعت.. وما خفت يوما من أمر فدعوته بها إلا كفاني إياه.. وما استعنت به من خلالها عن الناس إلا فتح لي أبوابا من السكينة والطمأنينة، أقول لكل مهموم أحاطت به المصائب والكروب في كل جهة من هذا الكون (أليس الله بكافٍ عبده)، أقول لكل مظلوم تكاثرت عليه أيدي البشر (أليس الله بكاف عبده)، أقولها لكل متعب أرقته الحياة طويلا فما عاد ليله ليلا!!.