مر علينا زمن ليس بالبعيد عندما كانت الخدمات الأساسية التي تقدم لأفراد المجتمع من الصعب الحصول عليها. كالكهرباء مثلا، أخبرني والدي أن الكهرباء في قريتنا الصغيرة والواقعة في رأس جبل في مدينة الباحة لم تكن موجودة أبدا، وفي قرى كانت مجاورة هناك مولدات كهرباء يشرف على تشغيلها عوائل يأخذون مبالغ عالية من الحكومة مقابل تشغيلها وتوفير مصباح واحد لكل منزل. قرأت سيرة الدكتور غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة)، ما قاله عن تكوين مجلس الوزراء بطريقة مركزة وتحت قيادة الملك خالد وولي عهده آنذاك الأمير فهد رحمهما الله ماذا فعل؟ جعل الطبيب وزيرا للصحة، وأيضا جعل من أستاذ في كلية التجارة وزيرا للتجارة؟.. وهكذا في معظم الوزارات. فما هي التكنوقراطية التي وضعتها في أول السطر؟ وهل قريتنا الصغيرة والمصباح والدكتور غازي لهم معرفة بها؟ أم هي مجرد كلمة من كلمات الجيل الجديد؟ يعود المصطلح إلى الأصل اليوناني تكنو (فني أو تقني) وقراط بمعنى السلطة، وتعني حرفيا في مجال الحكومات (حكومة الفنيين)، وهي الحكومة المتخصصة التي تتجنب الانحياز لأي موقف كان. والتكنوقراطي كما قال جان وليم لابيير (هو الخبير المدعو إلى المشاركة في صياغة القرارات التي يفيد منها في ممارسة السلطة الفعلية)، كما علينا أن ننتبه إلى أن التكنوقراطي يدعى لشغل منصب ما من قبل السلطة، وكلمة يدعى هنا أي (يكلف) بمهمة محددة ضمن وقت معين، بمعنى أنه لن يكون طامحا خلف منصب وزاري دائم، فتوزيره هنا جاء بناء على كفاءته في تخصصه، والتي اكتسبها عن طريق عمله وعقله وانتظامه وخبراته العملية. دعوني أذكر أن الدكتور توفيق الربيعة في بداياته أبدع في إنشاء بنية ذكية في المدن الصناعية، وذلك ليس بغريب بناء على تخصصه الجامعي، ثم نرى في السنوات التي تلت المناصب التي تم تكليفه بها والقائمة تطول في عضويات مجالس الإدارات الحكومية والمنظمات واللجان التي تتخصص في الصناعة، وأستطيع أن أقول بأنه ليس مستغربا جدا أن يكون وزيرا للتجارة والصناعة من عام 1433 هجري إلى وقتنا الحالي. هنا التكنوقراطية نجحت وأثمرت، فأغلبية المجتمع الآن يرى ماذا يقدم وماذا يفعل وماذا يصدر من قرارات وقوانين، ليس هذا فحسب، بل أصبحوا يساعدون الوزير في تنفيذ قوانينه، يا لذكاء هذا الوزير الذي لم يكتف بأن يقنع المجتمع (باحترامه)، بل جعلهم يساعدونه مجانا. لا نستطيع أن نقول كل تكنوقراطية نجحت، فالفشل كان سيد الموقف مع آخرين. كان طبيبا لامعا وبارعا، ولكن لا أظن أن الشروط القصيبية في الإداري الناجح انطبقت عليهم، وهي القدرة على معرفة القرار الصحيح، واتخاذه وأخيرا تنفيذه. ختاما، أعتقد أن حالة الدكتور الربيعة وعمله ومبادراته تجربة تستحق التكرار والتكريس.