رحل الوزير غازي القصيبي رحمه الله، ولا يزال حديث الناس وشاغل المجالس حتى بعد رحيله بأربع سنوات. كان في نظر كثيرين وأنا أحدهم كالشهاب المضيء في سماء وزاراتنا، الذي لا يمر إلا بعد دهر ودهر. وليس ذلك لأن الخالق سبحانه وتعالى لم يخلق من يساويه أو يعلوه أو يدانيه أو أن نساءنا عجزن عن أن يلدن بمثله كإداري ناجح. ليس هذا كله، فمجتمعنا السعودي مملوء بالرجال الأذكياء والأتقياء، والأقوياء والأمناء ولكن أغلبهم لم تتهيأ لهم الفرصة المناسبة لاستلام دفة القيادة في أي أمر وعلى أي مستوى إداري مؤثر كما حصلت لغازي رحمه الله على الرغم من استعدادهم وكفاءتهم، فغفا حظهم وحظنا معهم. لربما خَفت سراج الوزراء المحفوفين بالحب والمتابعة الشعبية بعد وفاة غازي، إلا أن هناك نجماً بدأ يلوح في الأفق بقوة، ألا وهو توفيق الربيعة وزير التجارة الحالي. وللأهمية أوضح أنه ليس الهدف من هذا المقال، مدح الوزير الحالي. فليس لي عنده أي مصلحة منظورة لا من قريب ولا من بعيد، سوى أني أشترك معه بروابط إنسانية ووطنية عامة. قد لا أكون منصفاً تماماً في تقييم عمل الوزير توفيق الربيعة. فهناك متخصصون في التجارة والاقتصاد من هم أكثر موضوعية وعلمية في تقييم أداء وزارة التجارة خلال فترته، إلا أنه رغم ذلك، يجب أن لا نهمل الصورة الذهنية الإيجابية التي ترسخت لدى الناس عنه، خلال فترة وزارته التي مضى عليها حتى الآن أكثر من سنتين. التي ظننت بسبب كثرة إنجازات وزارته أنه قد أمضى فيها على الأقل أربع سنوات. هل هو مكتوب علينا أن نكون في انتظار رجل «سوبر مان»، يتحقق على يديه كل ما نصبو إليه؟ مع الأسف الإجابة حتى الآن، نعم! فنحن رغم ثرائنا نظل دولة من دول العالم الثالث، التي من معاناتها نقص القيادات ذوي التوجهات «الخيرة»، التي تسعى لتحقيق الصالح العام. إن المشكلة في أغلب الأحيان ليس في نقص الموارد المالية وليس في ندرة العقول التي ترسم الاستراتيجيات وتنفذ المشاريع. بل إن المشكلة تكمن في الفردية والشخصانية في اختيار القيادات الإدارية العليا. وفي هذا السياق فإني أدعو كل من لديه ظن خاطئ بأن أجهزتنا الحكومية على درجة عالية من المأسسة، عليه أن يصحح فكرته، فالغالب أن مؤسساتنا الحكومية ليست إلا انعكاس لشخصية قائدها ومديرها. وعلى بعضهم كذلك أن يصحح فكرته بأن القيادات الإدارية العليا ليسوا مجرد منفذين فقط، بل يلعبون أدوارا تشريعية كبيرة جداً بدءًا من اقتراح القرارات، وحتى تفسيرها وتطبيقها ومتابعتها. ومن هنا تأتي نجومية وزير التجارة الربيعة، بأنه استفاد من الثقة الملكية ومساحة الحرية الواسعة الممنوحة له، وكان عند الثقة. وبعمله استطاع تعزيز فكرة مهمة بنظري وهي أن الكفاءة والنجاح هما من صدق الولاء للقيادة والاتباع للحكومة. وبالمناسبة فإن الربيعة حسب سيرته الذاتية ليس متخصصاً في الاقتصاد أو التجارة، وإنما هو أستاذ في علوم الحاسب. ولم يضره ذلك من تحقيق نجاحات مشهودة كوزير وقائد. بل إنه كما يقول ممن أثق برأيهم في وزارته، قد قام بتسخير التقنية في تطوير خدمات الوزارة بتسهيلها وتبسيطها. وشرع في تفعيل القرارات والأنظمة لمكافحة غلاء الأسعار والغش التجاري. إضافة إلى دور الوزارة في عهده في حل مشكلة بعض المساهمات العقارية المعلقة منذ عشرات السنين. أيضاً مما يحسب للربيعة أنه لم يحتجب عن الناس في صومعة عُلِيا لا يصل إليه إلا المقربون، بل نجده يتواصل مع الناس بكل القنوات بما فيها تويتر. ومن اللفتات الطيبة أنه منح الثقة بالشباب وأعطاهم مناصب قيادية مهمة في وزارة التجارة. فطول بقاء مسؤول معين لا يجعله تلقائياً خبيراً بالعمل بل قد يتكلس ويتحول إلى عقبة كؤود. ومن القصص التي شهدتها أنه في إحدى الملحقيات التجارية، كان هناك موظف، لم يكن يملك أي مؤهل علمي سوى أنه ابن مسؤول في إحدى الجهات، الذي من أجل عيني أبيه الصغيرتين الجميلتين عين في عهد وزير التجارة السابق في تلك الملحقية. وظل حوالي سنتين يحصل على راتب وهو «متبطح» في المملكة ويعمل في وظيفة أخرى، فيأخذ راتبين ولا يقدم أي شيء. فأتى الوزير الربيعة وأقاله. بهذا التصرف وغيره يشعرنا الربيعة بشعور مهم نكاد أن نفقده، وهو أنه مواطن مثلنا، وأننا وهو على نفس الدرجة من الأهمية، وأنه ليس لأي شخص حصانة بأن يفعل ما يشاء، أو أن يحول الإدارة التي استلمها «مزرعة» له ولنسله ليلهوا فيها كما يشاؤون. ومن الخير الذي سمعته عنه أيضاً، أنه من الوزراء الذي لديه الرغبة والقدرة على أن «يهز» بشته، ويتحرك ليشفع أو يطلب من المقام السامي الكريم أي أمر يهم صالح الوطن والمواطن. مثل الوزيرين، غازي القصيبي رحمه الله وتوفيق الربيعة وفقه الله، كمثل أي ثروة وطنية نفيسة. بل إن العقول النيرة والقلوب الخيرة هي أصل الثروات وأس الحضارات. هذه هي البطانة الصالحة التي نسأل الله القدير أن يهيئها لولاة أمر المسلمين. وهؤلاء هم أهل العزم ومستودع الثقة إن شاء الله. وهم من يزيد اللحمة الوطنية بتبييض وجه القيادة أمام شعبهم المحب لهم. أسأل الله له ولغيره ممن نحسبهم من الصالحين أن يكونوا ممن طال عمرهم وحسن عملهم ونفع بهم إخوانهم المسلمين.