لا يخلو الشعر العربي، في مسيرته الحداثية، من حمولات أيديولوجية وفكرية وقلق على الهوية في ظل مغامرات السياسي وذهنية القبيلة وتفاقم أزمات العرب عاربة ومستعربة، وبما أن الشعر منبته وجذوره في اليمن يأتي شوقي شفيق نموذجا يستنفر الحواس كلما تعثرت محاولات الخروج من الشرنقة، شوقي شفيق جزيرة مهيبة لمن يراه من بعد، إلا أنه شفيف التعبير مائي الكلمات، فعدن الساكنة والمسكونة لا تدجن عشاقها إلا بالأحلام الكبرى، شفيق يراهن على الجمال قبل الانضمام إلى حزب (مجرمي الحرف)، ويتطلع إلى القمة قبل أن تحز المآسي حبال الأمل، نتتبع خط سيره الكتابي فيأسرنا ليحرس أحزاننا عندما تنتابنا حمى الفرح، كغيمات البهار العابر مضيق باب المندب يعبر شعر شوقي شفيق إلى الباحة، فتتحول المنطقة إلى أنغام نكهات نافذة في سحب التأويل، من نسمات الشيخ عثمان نتلمس جمالية الغموض وثقل السكينة والمغامرة في سرد الحدث لا كما حدث، كأبهة الأحلام تتراقص نصوصه المموسقة داخليا لتعبر عن تجربة حقيقة بالقراءة، كون عمرها يمتد أربعة عقود: من نصوصه متروكات (إلى أبي) 1 الأب الذي كان يرتب وقته في فضاء الكتب، وفي الاعتناء الأقصى بالملابس؛ الأب الذي كتب قصائده في زمن خاص جدا، وباع كتبه لزمن خاص جدا؛ الأب ذو الذاكرة المحتشدة بلغته ولغة شعوب أخرى، ترك ذاكرة معطلة كانت مليئة باللغة والخرائب واليقينية العليا. الأب الذي أنجب رجلين وثلاث نساء وكأس جنون هذا الأب كله ترك على فراشه قبانا لقراءة الوقت، أحذية غير صالحة للسير، قميصا لم يلبسه أحد صلاة غير مكتملة أجزاء يابسة من بدنٍ نحيل احتضارا قصيرا وبعض رحيل. الأب الذي لم يترك وصية بالمتروكات غافل نساء الغرفة ومضى بهدوء. 2 الأب المتمدد على أريكة اليباس، تتدلى إصبعه في فضة الخاتم المعتقة. ومن فرط بدنه يوغل في رجفة التحول يقل تراكم الدم في آبار القلب، وتتناثر جرعات الهواء في فضاء اللا وصول. ثمة، إزاء انتفاخ القدمين، يرتبك النظر وتتبعثر بصيرة الحذق عند عتبة الصمت، والألم لا يقول رعدته. 3 كم كان الأب يروي النصوص ويكتب الحالات! لكنه لم يقدر على ترتيل آلامه. كم هجرة ستحصي أيها الولد المشتغل على سلالات العبارة، أيها الولد المشغول باستنطاق اللوعة؟! في الهجرة الأولى كان فراق العائلة. في الهجرة الثانية نحو العائلة تتراكم الوحدة في أبد الانتظار. في هجرات تالية تجف الأسرار ويعلو السباق لتشييع الدار القديمة إلى المالك الجديد. ولا يبقى غير ممر أخير يسلكه بدن ناصع الارتعاش، ذاكرة تخلو رويدا رويدا من التذكارات يد تتلمس خطواتها في المحو، وتشم عقاقير تؤخر صعود الدم، لكنها لا تفي بتأخير الصعود الأخير. 4 أب في غيم البرزخ ينتج ضوءه الشخصي، مكملا سيرة الرحيل العائلي المبدوءة بالجدة الأولى. كنت تظن أيها الولد المشغول بسلالة العبارة أن الجنائز ما عادت قابلة للخروج من بيت العائلة! ها هو نعش آخر كي يسقط رهانك... وها جثة لم ترها تتجه نحو فخامة المقبرة من دون أن تلقي عليك ترتيلة الوداع. لست تملك من عدة البحر إلا بقايا ملوحته، والخفايا التي تركتها النساء على شاطئ يابس هجرته النوارس واصطخبت بين أركانه الرافعات وحمى الوقيعة؛ ليس سوى الأصدقاء الذين مضوا والذين يخونون ها هو ذا البحر يرحل عنك وقد كنت عاشقه وسليل خطاه. وها أنت لست سوى ملحق باهت في سداه، أما كنت تغزل بعض نسائك عند تخوم وقائعه وتربي جنونك عند مصباته؟ كنت تحشد ساحله في يديك وترمي على النائمين تحايا المساء، أما كنت تأكل جبن النهود على رمله وتؤثث مائدة الحب فوق طراوته؟ كنت تقترض الأصدقاء على بعد مقهى من البحر، تشتجرون على قيمة الشاي أو تطلقون كلاما على الإخوة المخبرين وعهد السياسة.. ماذا تبقى من البحر غير يديك تروزان مجد الهباء؟ وأنت على عجل تتقمص بعض خلود المغني، ولكن بحرك يمضي ويتركه طائر الفلامنجو؛ لأنه المغني باءت ذخيرته بالضمور ولست سوى خطرة مرة في سدى البحر كف إذا عن رهانك! فالبحر لا بحر فيه، وأنت «تجر قوارب عمياء» في رغوة المد لا بحر إلا السكوت المريب أو الثرثرات الحصيفة؛ لا بحر إلا المغني على صوته يتناثر خبز العويل. مستريبا على بعد عينين من جمرة البحث يرفو المغني الضرير مساحات شهقته وينضد أسماك خيباته ليس إلا الحجارة في مشهد البحر كيف إذا ستخب على الماء، والماء ما عاد يذكر سيرته، الماء ينسى سلالته، والمغني يناور أشلاءه. لست تملك إلا يدين معرقتين ومحض غموض تجس به سفنا حرة ومناطق آيلة للنحول لست تملك إلا فما فائضا للعواء، وأعضاء جاهزة للفطام، وليس سواك يدل على محض نورسة علقت في الموانئ من فرط نكبتها لست تملك إلا قناديل مطفأة، نوافذ مغلقة منذ أن شاحنات الجنازة شيعت البحر ذات بلاد، وأنت على صيف مرثية تبتني ندما وقوارب مفعمة بانشطار المغني.