صدر المرسوم السامي الكريم بتحديد مهام مجلس الخدمات الصحية. ولا شك أن ذلك المرسوم خطوة هامة على طريق بناء نظام صحي حديث بدلا من مستشفيات وخدمات متناثرة هنا وهناك. وقد سرني كثيرا أن أول مهمة اوكلها مجلس الوزراء إلى المجلس كانت «إعداد استراتيجية الرعاية الصحية في المملكة»، وهو ما سبق واقترحته في مقال لي نشرته عكاظ تحت عنوان: «الخدمات الصحية بحاجة إلى رؤية استراتيجية». كما سبق واستعرضت بعض البرامج التي تقوم على أساسها الأنظمة الصحية الحديثة وذلك في مقال لي نشرته عكاظ تحت عنوان: «رسالة إلى معالي وزير الصحة». وأشرت إلى أن الدول المتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه من مستوى راق سوى بناء على تصور واضح. وهذا التصور -أو بالأصح «الفكر»- هو أساس أي استراتيجية ناجحة لبناء نظام صحي حديث. ذلك أن أي فعل بشري لا بد له أن يبدأ بالفكر، ومن هنا كان من الضروري استعراض بعض جوانب الفكر الذي تقوم على أساسه الأنظمة الصحية الحديثة: وأول ما يميز أي نظام صحي متطور أن الأولوية لا تكون للمشاريع الكبيرة، بل تكون الأولوية لخدمة المواطنين وسرعة وسهولة وصولهم إلى الخدمات الصحية التي يحتاجون إليها. ومن هنا نرى مدى اهتمام الدول المتقدمة بتوفير المراكز الصحية المختلفة في جميع الأحياء والمناطق وسهولة الوصول إليها، كما نشهد مدى تطور خدمات الاسعاف وخدمات الطوارئ في تلك البلدان. ويتميز أي نظام صحي حديث بأنه يقوم على برامج واقعية تعالج جوانب القصور في الخدمات الصحية.... وهذه النظم تقوم بتوفير الطب الوقائي وتوصل التوعية والتثقيف الصحي إلى المواطنين والمقيمين حيثما كانوا، قبل أن تقوم على توفير العلاج.... كما يتميز أي نظام صحي حديث بتوزيع ميزانية الخدمات الصحية بموجب الأولويات المبنية على حاجة المرضى، وليس على طموح المسؤولين.... وفي جميع الأحوال تتميز هذه النظم بالحرص على أن تكون الفائدة التى يجنيها المجتمع تتناسب مع ما يتم انفاقه على القطاع الصحي، أو بحسب التعبير الانجليزى Value For Money in Health Care.. وقد أدركت المجتمعات المتقدمة أن القطاع الصحي يتعامل مع قضايا الحياة والموت وأن المريض لا يتحمل أي تعطيل أو تأجيل، ولذلك تتميز النظم الصحية الحديثة بأنه لا توجد بها قيود أو عقبات بيروقراطية وبأنها تعتمد على إدارة عملية بسيطة تتناسب مع احتياجات المرضى وطبيعة المجتمع... ويتم تدريب الاداريين القائمين على هذه النظم حتى يتمكنوا من تشغيلها بكفاءة عالية بلا تعطيل أو تعقيد، بحيث يستطيع المواطن في أي موقع أن يبرز هويته ويحصل على الخدمة الصحية المطلوبة في أي مرفق صحي بدون «اجراءات» ومعاملات... وجميع هذه النظم تتميز بإتاحتها قدرا كبيرا من المرونة للمسؤولين في مختلف القطاعات حتى يمكنهم اتخاذ القرارات في وقتها ومواجهة المشاكل بفعالية بدلا من الاعتماد على تعقيدات البيروقراطية.. ولعل أهم ما يميز هذه النظم أنها تؤدي عملها بكفاءة من تلقاء ذاتها: دون الحاجة إلى دعم خاص أو اهتمام فوق العادة كلما لاحت مشكلة في الأفق... إن كل ما سبق جزء أساسي من مميزات الفكر الذي يقف وراء أي نظام صحي حديث... ومن الضروري اقتباس مثل هذا الفكر والتخلي عن تصوراتنا السابقة حتى يمكننا وضع الاستراتيجية اللازمة لبناء نظام صحي حديث.. وبينما نحن في انتظار ما سوف يسفر عنه مجلس الخدمات الصحية فكلنا ثقة أن المملكة بإمكانها أن تكون أول دولة عربية تؤسس نظاما حديثا للرعاية الصحية.