شهدت مصر، خلال الأعوام الأربعين السابقة، أكبر عملية بناء للمساجد. بدأت بقانون أصدره الرئيس السادات بأن من يبني مسجدا تحت بيت جديد أو عمارة يعفى من أي مخالفة للبناء. وهكذا صارت فرصة لكل المقاولين والمتاجرين في الإسكان أن يبنوا ويخالفوا البناء بالارتفاعات ما دام قد جعل جزءا من الدور الأرضي مسجدا نسميه نحن «زاوية»؛ لأنه في العادة يكون صغيرا بمساحة شقة من البيت، أي لا يزيد على مائة متر. ويكون بعيدا عن عمل وزارة الأوقاف فيؤذن فيه أحد السكان وإن لم يوجد فبواب العمارة! في خطبة الجمعة يختلف الأمر عادة فيكون الخطيب أحد السكان. انتشرت هذه الظاهرة في الأحياء الجديدة التي تحيط بالمدن القديمة وصارت عشوائيات من مخالفات البناء؛ لأنك تجد شوارعها أزقة لا تزيد على أربعة أو ستة أمتار. وهي عادة بعيدة عن أي سائح ولا يعرفها إلا ساكنوها، فهم مضطرون طبعا أن يعودوا إلى بيوتهم! ألغى حسني مبارك هذا القانون، لكن المقاولين والمتاجرين في الشقق ظلوا يقيمون الزوايا لسبب آخر، وهو أن وجود المسجد أو الزاوية يمنع هدم البناء المخالف وينتهي الأمر إلى مصالحة مع إدارة الحي المسؤولة ودفع مبالغ بسيطة كغرامة. للأسف، صارت المساجد الصغيرة هذه طريقا للثروة من المتاجرة في الشقق! ليس ذلك هو الموضوع فقط، لكن المشكلة كانت في كثير من مشايخ هذه المساجد الذين هم ليسوا على دراية جيدة بما يفعلون، فتسمع منهم خطبا يوم الجمعة لا تملك إلا أن تضحك وأنت تسمعها. بعد أن وقعت الواقعة مع الإخوان المسلمين وخرجوا من حكم مصر بدأت وزارة الأوقاف تنشط في رقابة هذه المساجد وأغلقت العشرات بل المئات منها. هي في الحقيقة كما قلت ليست مساجد بل زوايا صغيرة. فعلت ذلك وزارة الأوقاف، لكن طبعا لا تستطيع ولا يستطيع أحد هدم البيوت والعمارات العشوائية التي نتجت عن ذلك، فهي مسكونة ولا ذنب لسكانها، ثم إنه قد مضى عليهم في مساكنهم وقت طويل. صارت ضجة مضادة من الإخوان المسلمين لغلق الكثير من هذه المساجد، لكنها انتهت بسرعة؛ لأن الناس تعرف أنها لم تبن للعبادة بل لمخالفات البناء. وغالبا هناك في كل حي مساجد قائمة بذاتها يستطيعون فيها الصلاة. الآن انتهت القصة تقريبا، لكن يظل هناك آلاف المساجد المفتوحة كلها تتحدث عن الفضائل وعن الحساب والعقاب وبر الوالدين والمحبة ومبادئ الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج وشهادة أن لا إله إلا الله، وابتعدت تقريبا عن السياسة وصار ما تسمعه من كثير منها معقولا لا يضحك. والشيء الغريب هو أنه رغم هذه الحركة الكبرى في بناء المساجد والتبرع بالخطابة فيها، فلم أسمع من أحد الشيوخ يوما حديثا عن المساجد الأثرية التي أهملت في مصر أشد الإهمال. ذكرني بهذه الوضع للمساجد الأثرية تحقيق صغير نشر في جريدة الوطن المصرية عن حال بعض المساجد الأثرية؛ مثل مسجد قايتباي والسلطان حسن ومسجد الرفاعي ومسجد ابن طولون. وما جاء في التحقيق لا يزيد على القمامة المتروكة حولها وسرقة بعض مقتنياتها. ولأني كثير التجوال في مصر القديمة رأيت ذلك بعيني على مدار السنوات السابقة. لم يلفت انتباهي؛ لأن الزبالة تحاصرنا في كل شوارع مصر. تعودنا. وتذكرت مسجد المرسي أبي العباس بالإسكندرية زمان في طفولتي حين كانت الأرض حوله فضاء للاحتفالات الدينية واحتفالات الأعياد بعد الصلاة وكيف على مدار ثلاثين عاما بنيت كل الأرض الفضاء بعمارات قبيحة، حتى أنك لا ترى المسجد الرائع نفسه من الشارع، بينما كان يطل على البحر رغم أنه ليس على البحر مباشرة. وتذكرت صلوات الأعياد فيه والاحتفالات حوله كما قلت قبل أن أغادر الإسكندرية وكيف حين أذهب إليه الآن أراه فقط عند بابه. القمامة لا تحيط به مثل مساجد القاهرة الأثرية؛ لكنها تحيط بالبيوت من حوله. فجأة وجدت نفسي أسأل. كل هؤلاء المشايخ الذين خرجوا ويخرجون في الفضائيات في مصر يتحدثون ويفتون في كل شيء ويعترضون على أفلام أو كتب أو برامج تلفزيونية، لماذا حقا لا يحتجون على إهمال المساجد الأثرية التي يذهب إليها المصريون فيشعرون بسكينة عظمى تحمل وداعة بطول التاريخ فكلها من إنتاج العصور الوسطى. هل تختلف المساجد القديمة عن الجديدة. كلها بيوت الله. لكن القديمة عمارة عظيمة وهندسة رائعة. ربما هذه هو السبب. ibrahimabdelmeguid2hotmail.com