في السنوات الأخيرة من حياته، تغير هذا على نحو طفيف. ربما أن العودة لحياة العازب مرة أخرى قد سببت له صدمة: أدرك أن عليه أن يكون مقبول المظهر إذا أراد أن تكون له حياة اجتماعية من أي نوع. و ما كان أنه خرج و ابتاع ملابس ثمينة، و لكن الجو الذي كانت عليه خزانته قد تغير على الأقل: البني و الرمادي المملان قد نبذا لأجل ألوان أزهى؛ ترك الستايل الذي عفى عليه الزمن لأجل مظهر أكثر ابهاجا و أناقة. بنطلونات مخططة، أحذية بيضاء، كنزات صفراء، جزم ببكلات كبيرة. لكن على الرغم من هذه الجهود، لم يبدو و كأنه في بيته داخل هذه الثياب، لم تكن جزءا مكملا لشخصيته، مما يجعلك تفكر في طفل صغير قد ألبسه والداه ثيابه. مع الأخذ بعلاقته غريبة الأطوار بالمال (شغفه بالثراء، و عجزه عن الصرف)، كان مناسبا بشكل أو بآخر أنه كان يعتاش بين فقراء. مقارنة بهم، كان رجلا فاحش الثراء. لذلك، بقضائه أيامه بين أناس امتلكوا تقريبا اللا شيء، يستطيع أن يبقي نصب عينيه رؤية أكثر ما يهابه في العالم: أن يكون دون مال. ذلك يضع الأشياء كما يجب بالنسبة له. لم يكن يعتبر نفسه بخيلا- و لكن متعقل، رجل يدرك قيمة الدولار. كان عليه أن يبقى متيقظا. ذاك هو الشيء الوحيد الذي وقف بينه وبين كابوس الإفلاس. عندما كانت تجارته في ذروتها، امتلك هو وإخوته حوالي المئة بناية. كانت أرضهم هي المنطقة الصناعية الكالحة في شمال نيو جيرسي- مدينة جيرسي، نيوارك- و تقريبا جميع المستأجرين كانوا من السود. قد يقال عنه أنه أحد ملاك الأحياء الفقيرة، لكن لن يكون ذلك في هذه الحالة توصيفا دقيقا أو عادلا. و لم يكن على أية حال غائبا عن ما يملكه. لقد كان هناك، مستنزفا وقته وجهده بطريقة قد تدفع حتى أكثر موظف يقض الضمير للخروج عن طوره. كان العمل دوما أشبه بألعاب الخفة. هناك بيع وشراء المباني، شراء و تصليح الأجهزة، إدارة جماعات متعددة من رجال الترميم، تأجير الشقق، الإشراف على المراقبين، الاستماع لشكوى المستأجرين، التعامل مع زيارات مفتشي المباني، التعاطي الدائم مع شركات الماء و الكهرباء، و بدون الحديث عن الزيارات المتكررة للمحكمة- كلا الدورين كمشتك و كمدعى عليه- لرفع قضية أجار متأخر، أو للرد على الانتهاكات. كل شيء كان يحدث مرة واحدة، انقضاضات دائمة من دزينة جهات في نفس الوقت، ووحده الرجل الذي يؤدي أعماله بنفسه يستطيع أن يتعامل مع ذلك. كان من المستحيل في أي يوم من الأيام إنجاز كل ما يجب إنجازه في ذلك اليوم. أنت لا تعود للمنزل لأنك انتهيت، بل لأن الوقت ببساطة قد تأخر و لم تعد تملك المزيد منه. تنتظرك المشاكل كلها في اليوم التالي- و أخرى جديدة أيضا. لم تتوقف أبدا. خلال خمسة عشر عاما، أخذ إجازتين و حسب. كان رقيق القلب مع المستأجرين- يسمح لهم بتأجيل دفع الأجار، يهب الملابس لأطفالهم، يعينهم على إيجاد عمل- ووثقوا به. الرجال المسنون، الذين يخافون من السطو، يعطونه أغلى ممتلكاتهم ليحفظها في خزينة مكتبه. من بين كل أشقائه، كان الوحيد الذي يقصدونه الناس بمشاكلهم. لم يدعوه أحد بالسيد أوستر. بل كان دائما السيد سام. بينما كنت أنظف المنزل بعد وفاته، وجدت صدفة هذه الرسالة في قعر درج في المطبخ. من بين كل الأشياء التي وجدتها، أجد نفسي أكثر سعادة لاستعادتي هذه. إنها بطريقة ما توازن دفتر الحساب، وفرت لي برهانا حيا لكل حين يبدأ فيه عقلي بالانحراف بعيدا عن الوقائع. الرسالة معنونة ل«السيد سام»، و خط اليد تقريبا غير مقروء. 19 أبريل، 1976 العزيز سام، أعرف أنك متفاجئ لسماع أخباري. قبل كل شيء، من الأفضل أن أقدم لك نفسي. أنا السيدة ناش. شقيقة زوجة السيد آلبرت قروفر،- السيدة قروفر و آلبرت كانا يقطنان في 285 شارع باين في مدينة جيرسي منذ زمن بعيد، و السيدة بانكس شقيقتي أيضا.. لو كنت تذكر على أية حال. أنت رتبت أمر حصولي و أطفالي على شقة في 327 جادة جونستن،على بعد زاوية فقط من من السيد و السيدة قروفر، شقيقتي. مهما يكن، غادرت و أنا مدينة بأجار أربعين دولارا، كان ذلك عام 1964 لكنني لم أنس أنني مدينة جدا بهذا المبلغ. والآن، هو ذا مالك. شكرا لكونك لطيفا جدا معي و مع أبنائي في ذلك الوقت. هكذا أقدر بشدة ما فعلته لنا. أتمنى أن تستطيع استدعاء ذاك الزمن. حيث أنك لم تغب أبدا عني. قبل ثلاثة أسابيع تقريبا هاتفت المكتب لكنك لم تكن فيه تلك الساعة. عسى أن يباركك الله دوما. نادرا ما آتي إلى مدينة جيرسي، و إن حدث ذلك سأتوقف حتما لزيارتك. مهما يكن الآن، أنا فرحة لتسديدي هذا الدين. هذا كل شيء للآن. بكل إخلاص، السيدة ج ب. ناش. في طفولتي، ذهبت معه من فينة لأخرى في جولاته و هو يجمع الأجار. كنت يافعا جدا لفهم ما كنت أراه، لكنني أذكر الانطباع الذي تركته في، و كأنني، تحديدا، بسبب عدم استيعابي، دخلت في الإدراكات الخام لهذه التجارب بشكل مباشر، حيث لبثت إلى اليوم، حادة كشوكة تحت ظفر الإبهام. المباني الخشبية بمداخلها المعتمة، غير المضيافة. يحتشد خلف كل باب أطفال يلعبون في شقة ضئيلة جدا؛ أم، متجهمة دائما، منهكة، متعبة، متقوسة على طاولة الكي. الرائحة هي الأشد وضوحا، لكأن الفقر أمر يعدو غياب المال، هو إحساس متجسد، نتانة تغزو رأسك و تجعل التفكير مستحيلا. في كل مرة دخلت فيها مبنا برفقة والدي، أحبس أنفاسي، لا أجرؤ على التنفس، و كأن تلك الرائحة ستؤذيني. كان كل واحد سعيدا دوما لمقابلة ابن السيد سام. منحت ابتسامات و ربتات على رأسي لا تعد ولا تحصى. مرة، عندما كنت أكبر قليلا، أتذكر مرافقتي له يقود في أحد شوارع مدينة جيرسي و رؤيتي لطفل يرتدي تي-شيرت كبرت على ارتدائه قبل بضعة أشهر. كان تي-شيرت مميزا، بمزيج غير مألوف لخطوط صفراء و زرقاء، و لم يكن هناك من شك في أنه هو نفسه الذي كان لي. و بلا تبرير، غمرني شعور بالخزي. لا زلت أكبر قليلا، في الثالثة عشرة، الرابعة عشرة، الخامسة عشرة، أذهب معه أحيانا لأحصل على بعض المال بالعمل مع النجارين، الصباغين، و رجال التصليح. مرة، في يوم لا يطاق من شدة الحرارة في منتصف الصيف، وكلت إلي مساعدة أحد الرجال في مسح السطح بالقطران. كان اسمه جو ليفين، (رجل أسود، بدل اسمه إلى ليفين امتنانا لبقال يهودي مسن قام بمساعدته في شبابه)، و كان أكثر عامل يعتمد و يثق به أبي. جذبنا أكثر من خمسين غالونا من براميل القطران إلى السطح، و شرعنا في توزيع ما لدينا عليه بالمكانس. أشعة الشمس المنهمرة على السطح الأملس الأسود كانت غاشمة، و بعد نصف ساعة أو حواليها، دار رأسي، انزلقت على لطخة رطبة من القطران، سقطت، و بطريقة ما خبطت أحد براميل القطران المفتوحة، و انسكب ما به فوقي بشكل كامل. عندما عدت إلى المكتب بعد دقائق معدودة، انبسط أبي إلى أقصى حد. أدركت أن الوضع مسل حقا لكنني كنت محرجا للغاية من التندر عليه. و مما يحسب لأبي، أنه لم يغضب مني أو يجعلني أضحوكة. لقد ضحك، لكن بطريقة جعلتني أضحك أنا أيضا. ثم ألقى جانبا ما كان يفعل، أخذني، قطعنا الشارع إلى متجر والورث، و ابتاع لي بعض الملابس الجديدة. صار من المحتمل على نحو مفاجئ أن أشعر بأنني قريب منه.