«أول أفراس النهر وهو فرس نهر ذكر له لون اللؤلؤ الأسود، ويزن طنا ونصف الطن سقط مقتولا في منتصف العام 2009. كان قد هرب قبل سنتين من حديقة الحيوان القديمة التي أقامها بابلو إسكوبار في مزرعته بوادي مجدلينا. وخلال فترة حريته تلك، أتلف فرس البحر حقول مزروعات، وعاث خرابا بممتلكات خاصة، وأرعب صيادي الأسماك ووصل به الأمر إلى مهاجمة ثيران التلقيح في مزرعة ماشية. القناصان اللذان وجداه، وجها طلقة إلى رأسه وأخرى إلى قلبه (برصاص من عيار 37.5، لأن جلد فرس النهر سميك جدا)». هكذا هو مطلع رواية الكاتب الكولومبي خوان غابرييل باسكيث «دوي الأشياء عند سقوطها» التي نالت هذا العام جائزة «إمباك دوبلن الأدبية الدولية» للعام 2014 ، وهو أول كاتب أمريكي لاتيني ينال هذه الجائزة التي حصل عليها من قبل المغربي الطاهر بن جلون، والتركي أورهان باموك، وكانت رواية باسكيث قد حصلت عند صدورها بالاسبانية عام 2011 على جائزة ألفاغوارا الاسبانية. تبدأ الرواية بالقصة التلفزيونية عن اصطياد فرس نهر هرب مع أنثاه ووليدهما من حديقة حيوان خاصة أقامها تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار في مزرعته ليؤكد على سطوته وسعة نفوذه. هذه القصة تذكر المحامي الشاب والأستاذ الجامعي أنطونيو يامارا بالحادثة التي وسمت حياته إلى الأبد. ومنها تسترسل مخيلته في استحضار متسارع لشخص بعينه، شخص يدعى ريكاردو لابيردي، كان قد تعرف عليه في صالة بلياردو قبل ثلاث سنوات، وارتبط معه بصداقة قصيرة الأمد. ففي أحد الأيام، وبينما هو يمضي برفقة ريكاردو لابيردي إلى مركز ثقافي للاستماع إلى شريط مسجل، يتعرضان فجأة لإطلاق نار من قتلة مأجورين على دراجة نارية (وهي صورة عادية ومألوفة في كولومبيا خلال تلك السنوات). يموت ريكاردو لابيردي في الاعتداء وينجو أنطونيو يامارا، ينجو من الموت لكنه يصاب بجراح. ويكون لمحاولة الاغتيال نتائج كبيرة وحاسمة على مسار حياته. ففضلا عن معاناته الجسدية وإعادة التأهيل الطويلة والمؤلمة، يعاني أنطونيو يامارا من صدمة نفسية تتسبب فيها عادة مثل تلك الأحداث. يسقط في حالة اكتئاب عميق تؤدي إلى تدهور علاقته بزوجته آورا التي أنجب منها للتو طفلة (ليتيثيا). ويضاف إلى هذه النتائج أيضا عجز جنسي. «دوي الأشياء عند سقوطها» رحلة إلى الماضي بحثا عن أسباب ومسوغات وأحداث يمكن لها أن تفسر الوضع الذي وصلت إليه تلك البلاد وسكانها. أنطونيو يامارا، الناجي من محاولة الاغتيال، يريد أن يعرف كل شيء عن صديقه القتيل الذي تعرف عليه قبل فترة قصيرة، من هو هذا الرجل، يفكر: «هذا الرجل لم يكن دوما هو هذا الرجل. هذا الرجل كان رجلا آخر من قبل». يدرك الشاب أنطونيو يامارا أن هنالك سرا في ماضي صديقه الجديد، وربما عدة أسرار. انجذابه إلى حياة لابيردي الغامضة الذي تعرف عليه في صالة بلياردو، تحولت إلى فكرة متسلطة على عقله بعد اغتياله. بل إنه يتوصل إلى القناعة بأن حله لغز لابيردي سيكون إشارة إلى طريق خلاصه هو نفسه. ينطلق يامارا في تحريات تعيده إلى السنوات الأولى من عقد الستينيات، حين كان جيل من الشباب المثاليين شهودا على ميلاد تجارة سينتهي بها الأمر إلى جرف كولومبيا والعالم إلى شفير هاوية. بعد سنوات من ذلك، يحدث الهروب الغرائبي لفرس بحر، آخر أثر متبق من حديقة الحيوان المستحيلة التي أقامها بابلو إسكوبار في مزرعته. إنها الشرارة التي تدفع يامارا لرواية قصته وقصة ريكاردو لابيردي، محاولا تحري كيف وسمت تجارة المخدرات الحياة الخاصة لأبناء جيله. يتسع نطاق تجارة المخدرات في كولومبيا، بعد تشريعات رسمية في الولاياتالمتحدة تمنع الاتجار بها، مما يؤدي إلى ظهور تجارة غير شرعية مربحة بطريقة تفوق التصور، ومدعومة بمساندة من الإرهاب والعنف. عنف «يتجاوز الأحقاد الصغيرة والثارات الصغيرة للناس الصغيرين. إنه عنف تمارسه جماعات تكتب أسماؤها بحروف كبيرة بارزة: الدولة، الكارتيل، الجيش، الجبهة»، عنف صار معهودا في الحياة اليومية، كما يقول أنطونيو يامارا، لدرجة أن أهالي بوغوتا اعتادوا عليه. سيطر الخوف على كولومبيا وكان على أهاليها أن يتعايشوا معه يوميا. هنالك خوف جماعي، ولكن الأكثر إيلاما هو الخوف الفردي. لا شك أن أشد أشكال الخوف رهبة هو الخوف على من تحبهم وفي تحرياته يكتشف أن صديقه القتيل كان طيارا شابا، بدأ بتهريب المارغوانا وبكميات تزداد في كل مرة، إلى أن دفعه طموح الإثراء السريع إلى الموافقة على تهريب الكوكائين، كي يكسب الملايين دفعة واحدة ويتمكن من الانسحاب من تلك التجارة، ولكن حساباته أخطأت، وبدأت الأشياء تتساقط من حوله. ما الضجة التي تحدثها الأشياء عن سقوطها؟ الأمر يعتمد على الشيء الذي يسقط. ولكن دوي سقوط طائرة يكون رهيبا. وفي هذه الرواية تسقط عدة طائرات. الطائرة الأولى، عام 1938، في معرض جوي. أحد أبطال الطيران الكولومبيين يحاول القيام بمناورة جريئة فتنفجر طائرته، ويؤدي انفجارها إلى إصابة والد ريكاردو لابيردي بجرح في وجهه. طائرة أخرى هي التي دبر تفجيرها بابلو إسكوبار لاعتقاده أن بين المسافرين فيها سيسر غابيردي، وريث مثل لارا بونييا، القاضي الذي وقف في وجه بابلو اسكوبار وتم اغتياله. انفجار الطائرة الثالثة في هذه الرواية وسقوطها هو الذي يمنح الرواية عنوانها. فقد أسقطها بابلو إسكوبار أيضا لاعتقاده أن ريكاردو لابيردي بين ركابها، ولكنه لم يكن في الطائرة، وإنما كانت فيها زوجته الأمريكية إيلينا، إيلين. وهذه الطائرة تسقط في الصفحة 83 من الرواية، غير أن أصداء سقوطها تظل تسمع إلى بعد انتهاء الرواية. إنها رواية مكتوبة بإتقان كبير، موضوعها الرئيسي هو الخوف. الخوف من الخروج إلى الشارع، الخوف من الخروج ليلا، الخوف من التذكر، الخوف في كل مرة يسمع فيها دوي، أو يرى فيها شبح أوظل، خوف من المستقبل، خوف من عدم استجابة الجسد... رواية خوان غابرييل باسكيث هي رواية حول الخوف على الحياة. خوف يزداد في كل يوم. ويفاجأ أنطونيو يامارا «بأي سرعة وانكباب نستسلم لتمرين الذاكرة المؤذي الذي لا يأتي في نهاية المطاف بأي شيء جيد وإنما ينفع فقط في تغيير مسار تحركنا الطبيعي». الواقع أن ما يسقط في الرواية ليس الطائرات وحدها، بل تسقط بلاد بأكملها، وتسقط معها حيوات أشخاص كثيرين.. ويحاول الكاتب خوان غابرييل باسكيث أن يكتشف ملامح تلك اللحظات التي تبدلت فيها بلاده بتلك الصورة الجذرية، مثلما نحاول اليوم استجلاء ملامح التبدلات الجذرية الرهيبة التي تجتاح منطقتنا العربية، وإن لم تكن تجارة المخدرات هي السبب المباشر عندنا. قدرة الكاتب الاستثنائية في نقل أجواء الرعب والخوف تلك لا تخلو من لمسات إنسانية سامية، كقصتي حب كل من البطلين أنطونيو يامارا وريكاردولابيردي وزواجهما. كل ذلك في حبكة متماسكة ومشوقة. كما أنه يخفف من الأجواء الكابوسية بنفحات سخرية تخفف من وطأة العنف كما هي الحال في غمزة لطيفة عن اكتشاف إيلين الأمريكية، زوجة صديقه القتيل، لرواية مئة عام من العزلة، وحديثها عنها لأبويها، «عنوان مبالغ فيه وميلودرامي ... لقد حاولت قراءتها، أقسم أنني حاولت، ولكن اللغة الاسبانية صعبة جدا، والجميع هناك لهم الأسماء نفسها». أهي غمزة مزاح من الكاتب الكولومبي الشاب، أم هي محاولة لقتل الأب وتجاوزه ؟؟!!.