لا يتورع المرء في مقتبل العمر عن قراءة كل ما يقع في يده أو تحت مرمى عينيه من كتب. ذلك أن الحياة تبدو أمامه فسيحة بما يكفي لالتهام مكتبات بكاملها. وإذ أتحدث هنا عن المشتغلين بالثقافة والإبداع وشؤون النقد والتأليف أعرف أناسا كثرا شغفوا بالقراءة أشد الشغف لمجرد المتعة والاطلاع والغنى المعرفي، وتمكنوا من تأثيث مكتباتهم المنزلية بآلاف الكتب والمصنفات. وإذا كان البعض يتعاملون مع مكتبات بيوتهم بوصفها نوعا من «البرستيج» الشخصي أو جزءا من الديكور التجميلي لصالوناتهم الفخمة، فإن ما أتحدث عنه هنا يقع في خانة مغايرة، حيث لا يمكن لأي كاتب أن يرتقي إلى مصاف الإبداع الحقيقي دون أن يكون قارضا للكتب بشكل أو بآخر. لكن السؤال عما ينبغي للكاتب قراءته يظل مطروحا وبشكل ملح رغم تبدلات الأزمنة والمفاهيم. فهل تنسحب التخصصية التي تسود في مجالات العلوم والتقنيات الحديثة على الآداب والفنون ومجالات الإبداع؟ وهل على الشاعر أن يكتفي بقراءة الشعر، والروائي بقراءة الرواية، والرسام بقراءة المؤلفات المتعلقة بالرسم وفنون التشكيل، وهلم دواليك؟. لا أعتقد على المستوى الشخصي بأن الكاتب أو الفنان يمكنه أن يكتفي بقراءة ضيقة الحدود ومغلقة على نفسها، خصوصا أن النصوص التي ينتجها المبدعون يجب أن تتغذى من كافة أنواع المعارف والأفكار والأساليب التعبيرية والفنية. فالروائي يفيد من قراءة الشعر والتاريخ والفلسفة وعلمي النفس والاجتماع، بقدر ما يفيد الشاعر من القراءات نفسها لكي لا تضل قصيدته أسيرة الإنشاء الغنائي والتسطح المعرفي. وقد اعترف الشاعر الراحل محمود درويش في إحدى مقابلاته بأنه يجد متعة غير عادية في قراءة المعاجم العربية، وبخاصة «لسان العرب». لكن الأمر ليس بسيطا إلى هذا الحد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار لا نهائية الكتب مقابل محدودية الحياة وقصر الأعمار النسبي. والمرء، وبخاصة الكاتب، يحتاج حين يتقدم في السن إلى اختيار الكتب المنتخبة بعناية، والتي تضيف إلى تجربته ما يساعدها على النمو والتجدد ومجانبة التخثر. لا تعود القراءة العشوائية في هذه الحالة ملائمة لأوضاع الكتاب وضيق الهامش الزمني الفاصل بينهم وبين العجز أو الموت. لهذا فإن فيلسوفا عظيما كنيتشه لم يحتفظ في مكتبته إلا بعشرات الكتب المميزة، فيما قلص بابلو نيرودا حجم مكتبته الهائلة إلى الحدود القصوى. وفي ظل التسيب الهائل الذي يحكم عملية النشر، وطغيان هاجس الربح المحض على كل ما عداه، أرى أنه من المفيد أن تخصص الصفحات الثقافية أو الملاحق الأسبوعية لكبريات الصحف زاوية دورية لإرشاد القارئ إلى الإصدارات العربية والأجنبية الهامة التي تنبغي قراءتها. أتذكر في هذا السياق الزاوية الأسبوعية التي استحدثها رياض الريس في مجلة «النقاد» قبل عقدين من الزمن تحت عنوان «دليلك إلى الكتاب الرديء»، والتي دعت القراء من وجهة نظر كاتبها إلى عدم إضاعة أوقاتهم الثمينة فيما لا طائل من قراءته. لكن ما أدعو إليه، تجنبا لهذه القسوة، هو زاوية بديلة بعنوان «دليلك إلى الكتاب الجيد» تعهد إلى غير مشتغل بالشأن الثقافي وتشكل خارطة طريق ملائمة للقراءة المفيدة والممتعة. صحيح أن الجمال الإبداعي يظل مسألة نسبية ومتصلة بذائقة الإنسان الفردية، ولكن الصحيح أيضا أن ثمة حدودا من نوع ما للتمييز بين روائع الكتب المثيرة للدهشة وبين الغث والضحل وغير الجدير بالقراءة.