في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كنت طالبا في جامعة البترول والمعادن بالظهران، وكانت ملاصقة لشركة أرامكو السعودية، بل إننا كنا نسكن في «اللاينات» (سكن عمال أرامكو القديم الذي تحول إلى سكن لطلاب الجامعة وقتها). كنا نشاهد وقتها كيف حولت أرامكو المنطقة الشرقية إلى نمط حياة يختلف تماما عن أي منطقة أخرى في المملكة، في مدى الانضباطية والنظام وثقافة مجتمع متقدمة جدا، وكانت تعترينا الدهشة ونحن نشاهد كبار السن ممن لم يحصلوا على أي شهادة علمية يتحدثون الإنجليزية بطلاقة. وكنا نرى أرامكو وهي تبني أحياء جديدة في الظهران كالدوحة والدانة، وفق معايير عالمية وجودة عالية. واليوم، وبعد مضي ما يقارب الثلاثة عقود، عدت إلى الظهران وزرت الأحياء التي بنتها أرامكو قبل 30 عاما، لم تتغير؛ ما زالت أنيقة ونظيفة لا تجد فيها تسربا لقطرة ماء واحدة ولا تخنقك رائحة الصرف الصحي، حافظت أرامكو على طبوغرافية ولم تمسحها ولم تؤثر على نوعية التربة وتماسكها ولم ينهر الإسفلت فيها، أحياء نموذجية بكل ما في الكلمة من معنى. وبالأمس بنت أرامكو جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست»، وبالأمس القريب بنت استاد «الجوهرة المشعة» في مدينة الملك عبدالله الرياضية بجدة في فترة قياسية لم تتجاوز 15 شهرا، بجودة عالية وإتقان مبهر. الأمر الذي يجعلني أتساءل: ما الذي لا تستطيع أن تفعله أرامكو؟!. وكيف يمكن لنا استنساخ فكر وكفاءات أرامكو في مجال تنفيذ المشاريع وتأسيس البنية التحتية على الأقل؟! ولماذا لا تعتمد وزاراتنا كتيبات جودة بنفس معايير شركة أرامكو السعودية، تلزم بها الشركات التي رزئنا بها في تنفيذ معظم مشاريع البنى التحتية في محافظات ومدن وقرى المملكة؟! ما هو موقف أولئك المقاولين والشركات المنفذة لهذه المشاريع، عندما تستغرق من 8 إلى 9 سنوات في تنفيذ كوبري صغير جدا على طريق أبها خميس مشيط مثلا؟! أو الشركات المنفذة لمستشفيات لم تشغل منذ 10 سنوات مثلا؟! هؤلاء الذين فضحتهم أرامكو، كنا نعرف سلفا أنهم يتلاعبون بهذه المشاريع، وأنهم مجرد مقاولين من الباطن لمقاولين من الباطن أخذوا المشروع من مقاولين من الباطن، مرروا من تحت الطاولة مناقصة خفية لمقاولين من الباطن، عبر سلسلة مقاولين من الباطن اقتطع كل منهم جزءا من كعكة المشروع تكبر حسب التقادم في التعاقد مع الوزارة المعنية، ولا يصل إلى مقاول الباطن المنفذ للمشروع من كعكة ميزانيته إلا الفتات الذي تظل الشركة المنفذة تصارع وتنازع لسنوات مستخدمة عمالة رديئة ومعدات متهالكة وخامات سيئة لا تقوى على الصمود، فتنهار بعد سنوات، وربما أشهر، وربما أسابيع من التنفيذ السيئ والصيانة المعدومة أو الوهمية لهذه المشاريع التي نفذها المقاول الأخير على قدر ما حصل عليه من كعكة المشروع، وهكذا دواليك!!. هؤلاء الذين فضحتهم أرامكو، لا بد من التخلص منهم عبر التخلص من هذا الفكر غير الوطني الذي يغلب المصلحة الخاصة على العامة، والذي يعشش في أدمغتهم، ويضر بالوطن والمواطن، ويستنزف مقدرات البلاد، لتتضخم حسابات المنتفعين عبر هذه المناقصات والعقود الوهمية بمقدرات الوطن وتتخم كروشهم، ولا بد من العمل على «صنفرة» هذا الفكر النفعي المريض لدى المسؤول والتاجر والمواطن، إذا ما أردنا استنساخ تجربة أرامكو السعودية. قد يقول البعض: «أعطني إمكانيات وميزانية أرامكو، أعطِك عملا كالذي تنجزه»، وهذا الكلام مردود على من يتشدقون به؛ لأن ميزانيات المشاريع التي تمنحها الدولة لا مثيل لها على مستوى العالم، لكن الضمائر الميتة التي تبيع وطنها لأجل الكسب المادي، هي من تحتاج إلى اجتثاث، لتنجز مشاريعنا في نفس الوقت وبذات الجودة التي تنجزها أرامكو.