أينما تكونوا تدرككم السياسة. أتحدث عن مصر. إذا اجتمعنا في مقهى أو في بيت فالحديث عن الأدب يستغرق دقائق بينما يكون الحديث كله ما الذي سيحدث في مصر. يقين عند الكثيرين أن مصر مقبلة على عصر أكثر تراجعا من عصر مبارك يقابله يقين جارف أن مصر مقبلة على نهوض كبير.. تحظى شخصية عبد الفتاح السيسي بأكثر الكلام فمن يراه صورة من جمال عبد الناصر وينسى أن العصر اختلف وأنه إذا كانت هناك أشياء حلوة فعلها عبد الناصر فقد ضاعت كلها لأنه انحرف بالمسار الديموقراطي المصري إلى حكم الفرد ومن ثم لم يجد ما فعله من أشياء حلوة من يدافع عنها من الشعب إلا قليلين لم ينجحوا في الحفاظ عليها. إنهار التعليم وانهارت الصحة وبيعت شركات القطاع العام برخص التراب لأي عابر سبيل وازدادت قوة الدولة الأمنية بأكثر مما كانت في عهده ناهيك طبعا عن سقوط المشروع القومي الذي لم يبق منه إلا ديكتاتورية الحكام في مصر أو العراق أو سوريا. إذا قلت ذلك يسكت من أمامك ويبدو غير مقتنع إلا بما في رأسه. هذا فقط مثال واحد على المناقشات التي تذهب بنا جميعا بعيدا عن الثقافة والأدب والفن على الإجمال. أقامت إحدى المكتبات لي حوارا مع القراء عن أعمالي الأدبية فانقلبت إلى السياسة وكان معظم الحاضرين من شباب ثورة يناير وجهوا النقد لما يحدث في مصر من قوانين ضد الحريات فقامت سيدة بالهجوم عليهم وتوجيه عبارات حادة لهم وكادت تفسد الليلة لولا أني طلبت منها أن تقول رأيها لي أنا وكذلك يفعل الحاضرون ولا تتم مناقشة مباشرة بينهم وانتهي الأمر على خير وأنا أضحك. لم نتحدث في الأدب على الإطلاق. إلى هذا الحد ينشغل المصريون بحاضرهم ومستقبلهم. طبعا لن أتحدث عما يحدث على مواقع الفضاء الافتراضي وبصفة خاصة تويتر والفيسبوك. الأدباء تقريبا في معظمهم يكتبون عن أشياء شخصية مثل عيد ميلاده أو نجاح ابنه أو ابنته أو مرضه أو وفاة قريب له حتى بات الفيس بوك مثل صفحة اجتماعيات. والفرق أن الفيس بوك يوفر عليك الذهاب بنفسك إلي المناسبة كما كان يحدث زمان حين تكون الدعوة في الصحف. الآن أنت لست مطالبا إلا بإعجاب أو تهنئة أو رثاء أو تشجيع وأنت في مكانك. تويتر تغلب عليه السياسة فتجد نفسك بين فريق متيم بالمشير السيسي إلى حد الهوس وفريق رافض إلى حد الجنون وبينهما شتائم ولا أحد يناقش إلا قليلا ، وحين طلبت مرة عدم تبادل الشتائم قام الكثيرون بعمل إعادة ريتويت لما كتبت ولم تنتهِ الشتائم بينهم وأنا أبتسم وأندهش.. بلغ الأمر غايته ليلة الاثنين الماضي مع الجزء الأول من حديث المشير السيسي مع المذيعين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي. الذي أدهشني أنه في نفس وقت إذاعة الحديث كان التليفزيون المصري يبث مباراة بين الزمالك ونادٍ مصري آخر وقريبا من بيتي على الناحية الأخرى من الشارع، وكنت بين حين وآخر أسمع هتافا وصراخا عاليا. أول مرة تصورت أن هناك معركة في الشارع أو هجوما إرهابيا من ارتفاع الصوت والصراخ، وفي المرة الثانية انتبهت إلى أن ذلك يحدث داخل المقهي بسبب الماتش. ماتش ؟.. قلت لنفسي: ماتش أثناء حديث طال انتظاره للسيد عبد الفتاح السيسي!، وقامت القنوات بعمل الدعاية الجبارة لانتظاره. اتصلت بأحد الأصدقاء أضحك وأسأله عن هذا الماتش فقال لي إنه أمام بيته مقهى أيضا يذيع الماتش وبه خلق كثيرون. ثم ضحك وقال: «ياعم ما تشغلش بالك المصريين ريحوا دماغهم عارفين انه جاي جاي» !. بالليل عرفت أن مقاهي كثيرة جدا كانت تذيع الماتش إلى جوار مقى آخر كان يذيع الحوار.. سألت نفسي: لماذا يكون علينا نحن المثقفين أن نغرق في السياسة بينما الناس العاديون أراحوا رؤوسهم. تذكرت نضال المثقفين عبر الستين سنة الماضية. منذ ثورة يوليو 1952 والسجون التي دخلوها لخلافهم مع الأنطمة وأوقات الاتفاق وأوقات الاختلاف التي انتهت جميعها بما تريده الأنظمة لا ما يريده المثقفون!، لكني لم أصل إلى القول بأن المثقفين دفعوا من عمرهم بالمجان. أدركت الوهن الذي أصاب الناس أو ربما اليأس بعد ثلاث سنوات من ثورة كانت أيقونة الدنيا. وتذكرت ما تقلب علينا من آلام في العام الأول بعد الثورة، أيام المجلس العسكري الأول، وما مر علينا من كوميديا ومساخر في سنة الإخوان الضالين، وما يمر من إرهاب الآن وآلام أيضا. أدركت تعب الناس واكتشفت أن وقتا طويلا مر علي لم أقرأ رواية ولا ديوان شعر ولا كتابا نقديا ولم أر فيلما أو مسرحية، لكني وجدت نفسي أشارك في النقاش على الانترنت لحديث السيد عبد الفتاح السيسي وأقول أعجبني تصميمه على نهاية عهد الإخوان... وكان على المذيعين أن يحدثاه عن ضرورة القانون حقا، لكن هذا القانون في الحقيقة يمنع التظاهر فمواده كلها صعبة التنفيذ على المتظاهر وعلى رأسها كتابة الشعارات التي سيقولها المتظاهرون وتقديمها لوزارة الداخلية بينما الكثير من الشعارات تكون بنت الطريق العام واللحظة نفسها فضلا عن أن القانون يمنع أي اجتماع خاص إلا بموافقة أيضا وأن هذا القانون على هذا النحو جعل وزارة الداخلية في مواجهة الناس والأفضل أن تتفرغ للإرهاب. قلت: كان على المذيعين توضيح ذلك وليس الكلام العام عن القانون من عدمه، وتصورت أني سأناقش مسائل أخرى في الخطاب فجاءني الرد حاسما... وبدا لي أنها الحقيقة. وقررت أشاهد الماتش القادم للنادي الأهلي!. [email protected]