ما إن تنبه أساتذة العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية، لفكرة التحليل الحضاري، حتى كان لهذه الفكرة وقع الدهشة عليهم، وذلك لشدة ما حصل لها من إهمال كبير وغير متوقع، في حقل الدراسات السياسية الأمريكية. الإهمال الذي كشف عنه، مستغربا ومتفاجئا، الكاتب الأمريكي بيتر كاتزنشتاين في الكتاب الجماعي الذي قام بتحريره والموسوم: (الحضارات في السياسة العالمية.. وجهات نظر جمعية وتعددية)، وشرحه كاتزنشتاين بقوله: بالغت العلوم السياسية الأمريكية في إهمال التحليل الحضاري، فخلال السنوات التسع والتسعين الأولى من وجودها، وتحديدا ما بين (1906 2005م)، لم تنشر مجلة العلوم السياسية الأمريكية إلا مقالا واحدا، تم في عنوانه استعمال كلمة حضارة، إلى جانب مقال آخر أتى على ذكر المفهوم بصيغته المجردة، وهكذا الحال حصل مع مجلة وصفها كاتزنشتاين بالريادية في مجال السياسة الدولية المقارنة، هي مجلة (السياسة العالمية)، التي لم تنشر مقالا واحدا عن هذا الموضوع خلال الفترة ما بين (1948 2005م). لهذا لا يرى كاتزنشتاين غرابة من أن تكون معالجة آدا بوزمان، سنة 1960م، التي وصفها كاتزنشتاين بالمميزة، حول الثقافة والسياسة الدولية، قد قوبلت بنظرة رافضة على صفحات مجلة العلوم السياسية الأمريكية. وبصورة عامة، يبدو التحليل الحضاري في نظر كاتزنتشاين، بالنسبة إلى أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين، يعد إطارا واسعا، وليس أقوى اتصافا بالصفة السياسية، من أن يسوغ اهتماما بحثيا جادا ومعززا. ومع أن صمويل هنتنغتون، صاحب نظرية صدام الحضارات، هو أوضح من اعتمد منهج التحليل الحضاري في دراسة السياسة العالمية، وأكثر من لفت الانتباه إلى هذا المنهج، إلا أن منهجه قوبل بالتخطئة والنقد، فهذا المنهج في نظر منتقديه الأمريكيون لا يمثل ابتكارا حصل مع انتهاء الحرب الباردة كما ظن هنتنغتون، وإنما مثل تكرارا، لما كان قد حصل خلال فترة الحرب الباردة. وبهذا الاختلاف مع هنتنغتون، تتحدد أكثر من رؤية في طريقة النظر لمنهج التحليل الحضاري، بين رؤية تستند على هذا المنهج، وتعلن صراحة القول بصدام بين الحضارات، وبين رؤية أخرى، تستند على هذا المنهج أيضا، وتعلن صراحة القول بنقد ودحض فكرة الصدام بين الحضارات، وترى ضرورة أخذ فكرة الحضارات مأخذ الجد في تحليل السياسات العالمية. وتبقى الحاجة ثابتة لهذا المنهج الحضاري، الذي ما زال بحاجة إلى تجريبات واختبارات جديدة، في بيئات ومجتمعات أخرى، ومن زوايا ومنظورات وخبرات مختلفة، حتى تتعدد الرؤية، وتتنوع المواقف ووجهات النظر، في طريقة التعامل والتطبيق لنمط أو أنماط المنهج الحضاري في تحليل السياسة العالمية.