أتذكر الحادثة وكأنها وقعت البارحة: منذ حوالى سبعة وأربعين سنة كنت خارجا من حصة الرياضيات متأملا في أجمل وأشهر مثلث في التاريخ وهو مثلث فيثاغورس الشهير ذو الأضلاع العجيبة التي يبلغ طولها 3 و4 و5 وحدات... وفي وسط ذلك التأمل الفلسفي الهندسي، وإذا بحجر «خبيث» أو بالأصح رماه أحد الخبثاء، يطيح من الهواء على رأسي، فكانت «الفقشة» وفجأة اختفت صورة المثلث الجميل، ووجدت نفسي على الأرض، والدماء الدافئة تغطي وجهي... وسمعت صوتا يسألني «سلامات: هل انفقشت رأسك؟» فكانت فكاهة درامية من نوع آخر. وتولدت لدى حالة خوف كلما فكرت في الأجسام التي تسقط من السماء، أو في المثلث «الفياثاغورسي». وخلال الأسبوع الماضي قرأت عن توقع سقوط قمر صناعي روسي من طراز «كوزسموس 1220» تم إطلاقه عام 1980 واتضح في نفس السنة أنه أصبح «فشوشا». وبعدها بيوم واحد قرأت عن سقوطه على أراضي المملكة. ولم ينتهي الخبر هنا لأن هذه ثاني مرة يسقط قمر صناعي منتهي الصلاحية على أراضي المملكة خلال شهر واحد. وبلطف الله لم تكن هناك إصابات في الواقعتين. وحيث إن لدى حساسية زائدة للفقشة، ولإيضاح الموضوع بطريقة أوضح وأكثر شمولا، فلنتحدث بلغة الأرقام: تم إطلاق أول قمر صناعي في أكتوبر 1957 من الاتحاد السوفييتي. ونظرا لنجاح الأقمار الصناعية في العديد من المجالات شاملة الاتصالات، ودراسة الأحوال الجوية، والتطبيقات الفلكية، والتجسس، ومئات الاستخدامات الأخرى، فقد تم إطلاق أكثر من عشرين ألف قمر إلى اليوم بنجاح، وبمعدل يفوق المائة قمر سنويا لمختلف الأغراض والمدارات التي تبدأ من مائتي كيلومتر فوق سطح البحر إلى ما يقارب الأربعين ألف كيلومتر. وتعتمد هذه المدارات على مهمة القمر ووظيفته، فأقمار الأرصاد الجوية تختلف في مداراتها عن أقمار الاتصالات، وتختلف عن أقمار «الدبابيس ولا مؤاخذه»، واللهم اجعل كلامنا عنهم خفيفا. ومع مرور السنين انتهت صلاحية آلاف الأقمار التي أطلقت، علما بأن القمر لا يتجاوز عمره الافتراضي عادة العشر إلى الخمس عشرة سنة، وبالتالي فهناك كمية أقمار وأجسام فضائية أخرى «قرنبع» تحوم حول كوكبنا بسرعات هائلة تفوق السبعة والعشرين ألف كيلومتر في الساعة. وهناك المزيد، فكما هو الحال على سطح الأرض، توجد كمية مبعثرات فضائية هائلة تسبح في مدارات مختلفة حول كوكبنا. وتحديدا فهناك حوالى واحد وعشرين ألف قطعة بعرض نصف الصفحة التي تقرأها الآن، وأما القطع التي تقل عن ذلك ولكن تفوق حجم سكر قوالب «باعشن» الصغير، فتقدر بحوالى نصف مليون قطعة. وكما هو الحال على سطح الأرض فهناك صعوبات في تنظيف هذه القمائم علما بأن العديد منها يحترق عند دخوله إلى الغلاف الجوي الفضائي ولا يشكل خطر على البشر. ولكن بين كل حين وآخر تأتي حالة مثل «كوزموس 1220» السوفييتي الذي لم يحترق بالكامل عند دخوله إلى الغلاف الجوي. والغالب أنه كان يحوم على المرتفعات المنخفضة فلم يتعرض لكامل عملية الانصهار مثل الأقمار الأخرى. وللعلم فمعظمها تشبه جرة الفول بحجم يصل إلى ما يعادل نصف «اللاند كروزر». وهنا نطرح السؤال: من سينظف هذه «الكراكيب» من مدارات كوكبنا؟ أحد التحديات هو أن تكاليف التخلص من البقايا، والشظايا، والقمائم الفضائية مرتفعة، وقد تصل إلى ما يفوق الستين مليون ريال لكل عملية إطلاق قمر صناعي مختص بالتنظيف. أمنية عندما طرحت مناقشة هذا الموضوع في بعض المحافل الجادة، تعرضت للاستخفاف والسخرية من أحد زملائي في مجلس الشورى، ومن أحد كتاب هذه الصحيفة الغراء. وذلك بالرغم من الإحصائيات الموثقة المذكورة واهمها سقوط القمرين على أراضي الوطن... وكأنهما يقولان «سلامات: هل انفقشت رأسك؟» بأسلوب الفكاهة الدرامية. وقد بدأ مركز الفلك الدولي بالإمارات العربية المتحدة خلال هذا الأسبوع بإنشاء برنامج بالتعاون مع خبراء دوليين للبحث في موضوع الأقمار الهاوية على الأرض. أتمنى أن تقوم مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بدراسة عن تقويم هذه المخاطر على أراضي الوطن. وصدقوني فالفقشة هي تجربة مؤلمة جدا بدنيا، ونفسيا، وفكريا... ولا تسألوني عن مثلث فيثاغورس. والله من وراء القصد.