قد يتساءل البعض عن مقام المحاماة وهذه التسمية التي يرى مناكفوها أنها صيغة مبالغة من أهلها وذويها والمنتسبين إليها. بيد أن ذلك ليس مبالغة فالمحاماة لغة قرآنية تحمل معها الجدال والسؤال الذي لا يهدأ عن سبب كل واقعة ومسبب كل حادثة وهو سؤال للقرآن في القضية المشهورة «أقتلت نفسا بغير نفس». وحين سأل المحامي الفرنسي الشهير جاك أزورني عن مهنة المحاماة أجاب بزهو وفخر عجيب قائلا: (إنني أحب المحاماة لمساهمتها في تحقيق العدالة.. فإن تحقيق العدالة هو الحلم الدائم الذي نشعر به في أعماقنا، ونسعى دائما إلى تحقيقه. وأحب المحاماة لأنها توفر لصاحبها حريته هو في العمل. نعم.. ولأنها تحقق المال ، والجاه ، والمركز الاجتماعي ، ولأنها مهنة الدفاع عن الضعفاء والأرامل واليتامى. نعم .. هذا كله صحيح.. غير أنني في الحقيقة الكبرى لم أكن لألبس هذا الروب المزركش بالفراء وأفني ساعات يومي وأيام حياتي شبابها وكهولتها من أجل ذلك فقط. إنما أحب المحاماة لأنها حصن الحريات. إننا قد رأينا في السنوات العجاف التي مرت بنا ولانزال نرى الحريات يموت بعضها إثر بعض. ولكن لن تموت الحريات كلها ما دامت المحاماة قائمة، ومادمنا نلبس لها الثوب الأسود المزركش والأكمام البيضاء! لكي نحمي بها حريات المواطنين، وشرفهم وأمنهم من الاضطهاد والظلم ؟) انتهى. وأقول أنا لقد انحصرت رغبة الكثيرين اليوم في ولوج المهنة نظرا للعائد المادي المغري الذي يصاحب ذويها غالبا إلا أن ذلك يجب أن لا ينفك عن جوانب أخرى لعلها تكون رديفا أو شفيعا لذويها وهو الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم. والمال المغري الذي أشرت إليه قد لا يأتي سريعا خصوصا للمتدربين وحديثي الدخول في المهنة أو ممن قد يعتريهم فشل أثناء ذلك. وهم إن كانوا بلا مورد مادي مجزٍ فلا أقل من عيشهم السوي في أخلاقهم ومثلهم العليا. لقد أعجبت برأي أحد المحامين البارزين من الأشقاء العرب الأوائل وهو المحامي الشهير محمد شوكت التوني حيث تحدث عن تجربته في مهنة المحاماة بعد أكثر من خمسة وعشرين عاما قضاها في تلكم المهنة حيث قال: «ثم هأنذا بعد خمسة وعشرين عاما أجد نفسي بعد صون المبادئ وبعد عذاب الجهاد عبارة عن تاكسي يسير مشوارا بمبلغ معين وهو في هذا المشوار يضرب النفير ويدوس على البنزين ويسرع تارة أخرى ويقف حينا ويمرق من سيارات أخرى أحيانا وقد يدهس راجلا وقد يتفادى آخر. هأنذا بعد خمس وعشرين سنة أجدني قد أخطأت وزللت وارتبكت مضطرا حينا وضالا عن الحق أحيانا. كل هذا بمبلغ ثابت أناله عند آخر المشوار والفرق بيني وبين التاكسي أنه لابد أن ينال أجره آخر المشوار وإلا فالعراك والضرب وربما قسم البوليس. أما أنا ففي أغلب الأحيان قد لا أنال الأجر ولا الحمد ولا الشكر وإنما قد أنال نكران الجميل وجحود المجهود وربما شيئا قليلا أو كثيرا من الشتم وشائعات السوء وربما أيضا إلقاء التهم والشكايات».. [email protected]