ونختم هذه الحلقات التي سردنا فيها جوانب من سيرة الإمام العادل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بما رواه إبراهيم بن عبيد بن رفاعة قال: شهدت عمر بن عبدالعزيز ومحمد بن قيس يحدثه، فرأيت عمر يبكي حتى اختلفت أضلاعه. ودخل الشاعر سابق البربري على عمر، فقال له: عظني يا سابق وأوجز. قال: نعم يا أمير المؤمنين، وأبلغ إن شاء الله. قال: هات فأنشده: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ووافيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون شركته وأرصدت قبل الموت ما كان أرصدا فبكى عمر حتى سقط مغشياً عليه. وإذا ما ذكر وقوفه بين يدي الله، وتمثلت أمامه مسؤولياته الكثيرة عن الرعية، وشؤون الدولة، عظم ذلك عليه، وبكى من هول الموقف، ولربما خر مغشياً عليه. بكى مرة فبكت زوجته فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء! فلما تجلت عنهم العبرة، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت – يا فاطمة – منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير. ثم صرخ وغشي عليه. ويحدث مولى لعمر عن واحدة من ليالي أمير المؤمنين، فيقول: استيقظ ذات ليلة باكياً، فلم يزل يبكي حتى استيقظت. قال: وكنت أبيت معه، وربما منعني النوم كثرة بكائه. قال: فأكثر ليلتئذ البكاء جدا، فلما أصبح دعاني فقال: أي بني، ليس الخير أن يسمع لك وتُطاع، إنما الخير أن تكون قد عقلت عن ربك ثم أطعته. يا بني لا تأذن اليوم لأحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني! قلت: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، رأيتك الليلة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله؟ قال: فبكى ثم بكى، ثم قال: يا بني إني – والله – ذكرت الوقوف بين يدي الله ! قال: ثم أغمي عليه، فلم يفق حتى علا النهار. قال: فما رأيته بعد ذلك مبتسما، حتى مات. وكان يطيل الوقوف عند القبور، ويذكر نفسه بالمصير المحتوم ويعظ الناس، وينبههم إلى ما هم صائرون إليه، وللقبر رهبة، وفيه مواعظ وعبر لمن أراد أن يتعظ ويذكر. وروى الرواة في سيرته: أنه كان كثير الاعتبار بأهله من بني أمية فكان يقف عند قبورهم في دمشق وسواها ويستذكر ما كانوا فيه من عز وبذخ وما حكموا من بلدان وأناس. وكيف أنهم كانوا ملوكا لا يطلبون أمرا من أمور دنياهم إلا تحقق لهم ثم ساورتهم المنية .. فأين مروان بن الحكم وأين عبدالملك بن مروان وأين الوليد وسليمان وأين بقية رجال أمية كبارا وصغارا ؟ .. ها هم اليوم أصبحوا لا يملكون إلا ما قدموا من عمل. السطر الأخير: ذهب الأولون قرنا فقرناً لم يدم حاضر ولم يبق بادي