بعد تسعة أشهر على انطلاق مؤتمر الحوار الوطني اليمني، توافقت مكوناته على وثيقة حلول وضمانات القضية الجنوبية وشكل الدولة الاتحادية، بعد أسابيع من التجاذبات والخلافات في شأن الوثيقة التي رعاها سابقا مساعد الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر، ووصفت من قبل بعض الأطراف اليمنية المعترضة بأنها «تؤسس لانفصال جنوب اليمن عن شماله». غير أن جناح في الحراك الجنوبي يقوده الدكتور عبدالحميد شكري نائب رئيس المجلس الوطني للحراك السلمي الجنوبي الذي أعلن في فترة سابقة انسحابه من أعمال المؤتمر اتخذ موقفا رافضا للوثيقة، ودعا إلى قيام كيان جنوبي مستقل بشكل كامل عن الشمال. على صعيد متصل، صدر بيان مبادئ أكد التزام رئاسة الجمهورية ورئاسة مؤتمر الحوار الوطني عدم السماح بصدور أي وثائق عن المؤتمر تؤسس لكيانات شطرية طائفية أو تهدد وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وإلى أن وثائق المؤتمر «التي ستشكل محددات للدستور المقبل لن تتعارض مع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومبادئها العامة أو قراري مجلس الأمن 2014 و2051. وكان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي جمع، الثلاثاء الماضي، الأطراف المتحاورة في مسعى لتجاوز بعض الخلافات ومباشرة توقيع وثيقة حلول وضمانات القضية الجنوبية وشكل الدولة الاتحادية، والتي عرقلت استكمال الحوار الوطني وإقرار وثائقه النهائية، وخصوصا بعد الخلافات الواسعة على شكل الدولة الاتحادية وعدد أقاليمها. وأكد البيان الرئاسي أن وثائق المؤتمر ستتضمن حلا عادلا وشاملا للقضية الجنوبية، في إطار دولة موحدة، على أساس اتحادي وديمقراطي وفق مبادئ العدل والقانون والمواطنة المتساوية، وأن مخرجات ووثائق مؤتمر الحوار تستهدف «معالجة مظالم ضحايا الصراعات السياسية، وفي إطار مبادئ العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية». لقد عانى الشعب اليمني الشقيق الكثير من المآسي والكوارث والمحن على امتداد تاريخه الطويل، سواء قبل أو بعد قيام الجمهورية العربية اليمنية إثر ثورة سبتمبر في الشمال، وطرد القوات البريطانية (ثورة 14 أكتوبر) من الجنوب وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (68م)، يكفي أن نذكر أن كافة الزعماء والرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة في الشمال والجنوب كان مصيرهم القتل أو الاغتيال أو الإبعاد القسري، وآخرهم كان الرئيس السابق علي صالح الذي استقال إثر حراك ثوري وضغوط شعبية واسعة، وذلك في إطار مبادرة خليجية. على امتداد سنوات طويلة عانى اليمن (شماله وجنوبه) حالة من الفوضى وعدم الاستقرار من جراء الحروب الأهلية والمناطقية، واستمرار التصفيات بين أجنحة الحكم المتصارعة في ظل حالة التشطير والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي السائد بين الأغلبية الساحقة من الشعب، خصوصا مع تدمير المنجزات المادية (وهي متواضعة) التي تحققت بعرق وكدح أبنائه واستنزاف الموارد الضخمة على القطاعات العسكرية والأمنية، ما أدى إلى تعطيل مسيرة التنمية والبناء وعودة انبعاث وترسيخ الانتماءات (ما قبل الوطنية) الفرعية التقليدية من قبلية وطائفية ومناطقية. قيام الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب في عام 1990 حظيت في البداية بالتفاف وحماس شعبي واسع، باعتبارها الإطار السليم والصحيح لتجاوز حالة التشطير والاحتراب وإعادة التلاحم والاستقرار، وبناء الوحدة الوطنية الراسخة، عبر تصفية احتكار الحزب أو الجيش للسلطة والاستناد إلى التعددية السياسية وإطلاق الحريات العامة وبناء دولة القانون والمؤسسات، وترسيخ دعائم المجتمع المدني، ومكافحة مظاهر الفساد والتسيب الإداري والمالي وإعادة تفعيل العملية التنموية من أجل رفع وتحسين مستوى حياة الشعب المعيشية والتعليمية والصحية. غير أن هذه الأهداف والمشاريع الكبيرة التي علق عليها الشعب اليمني الكثير من الآمال أصيبت بانتكاسة خطيرة نتيجة استمرار المنافسة وغياب روح الثقة والتعاون بين القيادات اليمنية، وبالتحديد بين الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض، وبين حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي الشريكين الرئيسيين في صنع الوحدة وفي السلطة، إلى جانب تغليب المصالح الفئوية الخاصة، وعدم مراعاة الخصائص الاجتماعية والتمايزات الثقافية والمصالح المتعارضة ذات الطابع الموضوعي بين الشمال والجنوب، وهو ما أدى إلى انفجار الحرب بين الشمال والجنوب في 27 أبريل 1994م على نحو أشد ضراوة ودموية، حيث خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمنفيين، إلى جانب الخسائر المادية التي قدرت بأكثر من عشرة مليارات دولار. ومع أن الحرب توقفت وانتصر خيار الوحدة، غير أن الجراح والمآسي التي خلفتها الحرب لا تزال ماثلة وعميقة الجذور. مشاكل وأزمات اليمن والمخاطر والتحديات الداخلية التي تواجهها في ظل تجاذبات إقليمية ودولية يتجاوز موضوع الجنوب. نشير هنا إلى الخطر المتنامي لتنظيم القاعدة التي استطاعت ترسيخ وجودها في العديد من المناطق اليمنية، إلى جانب اتساع وامتداد حدة القتال والصراع الطائفي، والذي بات على مشارف العاصمة صنعاء، ناهيك عن فشل مشاريع التنمية المستدامة التي من شأنها وضع حد لاستفحال أزمات البطالة والفقر والغلاء، وغياب البنية التحتية، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية والتي يعاني منها الشعب اليمني.