لا تعني الدكتور سعد البازعي أماكن الذاكرة قدر ما تعنيه ذاكرة المكان بما خلفه المبدع من أثر يتدلى من ذائقة محترقة لمتذوق مضيء، غيومه ليست مثقلة بالمكابرة أو العناد، ذلك أن مزنه تهطل بهدوء دون استثارة السهول والوديان، قد يغيب إلا أن شعلته تمخر عباب الظلام برؤى تنويرية، له مشروعه النقدي القائم على تجريدية لخدمة النص مع احترامه الكامل للشخص، وهنا أسئلتنا المنزوعة الحدود وإجاباته المحفزة لقراءته أكثر: يلفت النظر أنك مسكون بالأدب العربي ودراستك التخصصية في الأدب الإنجليزي.. كيف تعلق على هذه المفارقة؟ أظن أن الغرابة هي لو لم أكن مسكونا بالأدب العربي، فالانتماء الثقافي هو الذي تغلب منذ البدء، فلقد درست الأدب الإنجليزي وفي ذهني حلم أن أخدم الأدب العربي، وأذكر أنني تأثرت بما قرأته عن بعض الأدباء العرب الذين تأثروا بالأدب الإنجليزي وأفادوا من انفتاحهم على الآداب الأوروبية عموما، وقرأت شيئا من ذلك قبل دخول الجامعة وظل ذلك هاجسا يدفعني نحو الآخر، وبالطبع لم يدر بخلدي عندئذ أنني سأصبح أكاديميا أو دارسا، وإنما كنت أتوقع أن أصبح شاعرا أو كاتبا، أي منتجا للأدب لا دارسا له، وأعلم أن القاعدة ليست كذلك، أي أن كثيرا من زملائي في التخصص لم يتجهوا اتجاها مشابها، لكني أرى ذلك خسارة، ولم أتردد في تذكيرهم وتذكير طلابي بأن الآداب الأوروبية ليست بحاجة إلى خدماتنا، وأن قصارى ما نستطيع فعله هو إثراء دراستنا للأدب العربي بمعرفتنا للآداب الأجنبية، المتخصصون في الآداب الغربية لا يرون في الغالب أنفسهم معنيين بالأدب العربي، وهذا ليس في بلادنا فحسب، بل في مجمل البلاد العربية، وتدريسنا للآداب الغربية لا يشجع الطلاب على الارتباط بأدبهم العربي فيتخرجون أجانب فعلا. برغم إيمانك بالحداثة وقراءة إليوت وريلكه ودرويش إلا أنك سافرت إلى امرئ القيس.. هل أنت مع الحداثة المؤصلة؟ نعم، أعتقد أنني مؤمن بذلك التوجه، وبشكل عام أنطلق من قناعة أن تأثير الزمن والاختلاف الثقافي محدود على جوهر الأدب، فامرؤ القيس وريلكه يلتقيان عند هموم وأحيانا صور متقاربة، واهتمامي بالأدب المقارن تأصل على تلك القناعة، سواء اتصلت بالحداثة أم بغيرها، لكن فهمي للحداثة لم يكن يوما يتكئ على كونها حداثة زمنية بقدر ما أنها حداثة في الجوهر، في طبيعة الرؤية، أي مقدرة النص الأدبي على أن يكون معاصرا لقراءه حيثما وأينما كانوا، فصورة امرئ القيس لليل الطويل حديثة إلى الأبد، وكذلك صور ريلكه للعزلة. هل يصدق عليك وصف الناقد الانتقائي بصورة ما؟ الانتقائية هي الأصل، فلا أتصور دارسا يقبل على كل شيء دونما اختيار، لكن الانتقائية يقصد بها أحيانا التحيز الواضح عبر اختيارات تنبع من الهوى المحض وليس المعايير أو القيم الثقافية والأدبية، وأرجو أن أكون بعيدا عن هذا اللون الأخير من الانتقائية، ونحن ننتقي بناء على منهج أو معايير موضوعية أو اهتمامات شخصية، لكننا دائما ننتقي حتى في الدراسات التي يفترض أن تكون شمولية كالتأريخ للثقافة أو العلم أو الأدب، فمع أن الانتقاء يكون أوسع في تلك الحالات نتيجة الحاجة إلى أكبر قدر من الشمولية، فإنه يظل انتقاء لما ذكرت من أسباب، وأيضا لأننا غير قادرين على الإحاطة بالظواهر كافة وبكل تفاصيلها. كتبت عن القلق المعرفي وعلاقة الديني بالأدبي إلا أنك لم تشأ أن تصدم تيارا ما.. هل تتعمد الهدوء واستقطاب جميع القراء؟ أظن أنني وصفت بهذا الوصف مرات عدة، نعم أحاول تفادي المصادمة المكشوفة أو الدخول في معارك أراها مفتعلة، لكنني لم أتورع عن الصدام حين لم أر منه بد، وما أفضله هو غالبا الحفر الهادئ في القضايا التي أتناول محاولا تأصيل هذا الاتجاه بوصفه قيمة وسعيا لمعرفة معمقة ومتوازنة. هل غدا الشعر نوعا من الرفاهية أم ما زال ضروريا في حياتنا؟ الشعر ضرورة في حياتنا بقدر ما أن الجمال ضرورة والتعرف على طبيعة الأشياء والناس ضروري، فالشعر هو الفن اللغوي الأكثر رهافة واختزالا وقدرة من ثم على حشد كل ذلك في صور ومجازات مضغوطة ومستلة كالرحيق من أزهار ملقاة عند الباب لم يلحظها أحد غير الشاعر، كما قالت إيميلي ديكينسون، لكني أضيف أن كثيرا مما يظنه البعض شعرا ليس كذلك، وإنما هو حكم أو وعظ أو مشاعر ذاتية، الشعر الحقيقي موجود في الجمالي والمدهش والعميق في كل شيء، في اللوحة وفي الرواية وفي السينما وبالطبع في القصيدة، ومن هنا فهو حاضر بالضرورة وللضرورة في حياتنا، وإذا كان الشاعر هو الذي يقدم لنا الجمالي والمدهش والعميق، فإن القارئ المرهف هو الذي يقدم لنا الشعر الذي عثر عليه الشاعر في العالم، القارئ في داخلنا إن امتلكناه أو خارجنا إن لم نمتلكه، ما أقوله ينهض على تفريق سبق أن عبرت عنه بين الشعر والقصيدة، القصيدة شكل يسعى إلى الشعر وكم من قصيدة ليس فيها من الشعر إلى إطلالة صغيرة أو لا شيء مطلقا، أي أنها قد لا تكون أكثر من نظم أو رصف كلمات قد تكون مهمة ومفيدة لكنها ليست شعرا. كيف ترى إلى سيرورة التجارب الشعرية في السعودية، هل من تراكمية؟ نعم، أعتقد أن التراكمية متحققة، لكن قصر عمر التجربة قد يجعل من الصعب ملاحظتها، هناك خط حداثي مثلا يمتد من محمد حسن عواد إلى محمد العلي إلى ناصر أبو حيمد إلى غازي القصيبي إلى سعد الحميدين وعلي الدميني وإبراهيم الحسين.. وغيرهم، وحاولت تتبع ذلك الخيط في كتابي عن «جدل التجديد الشعر السعودي في نصف قرن»، لكنها كانت محاولة محدودة، ما زلنا بحاجة للمزيد من الدرس للتعرف أكثر على ما لدينا من تراكم. ما مدى اتفاقك مع القائلين بأننا استضفنا قصيدة النثر ولم نحسن رفادتها؟ التجارب السعودية في كتابة قصيدة النثر تجارب مميزة لدى كبار مبدعيها وهم كالعادة قلة، لكن قصيدة النثر شأنها شأن قصيدة النظم تعتمد على الموهبة، وهذه ليست مطروحة على الطريق، والغث منها أكثر من السمين، وهذا يصدق على كل شيء: الرواية، القصيدة، المقالة... إلخ. السهولة الخادعة في كتابة قصيدة النثر موجودة أيضا في كتابة القصيدة المنظومة، فالنظم ليس معجزة، وإنما هو جزء من إحساس الإنسان بالإيقاع، لكنه بحد ذاته لا ينتج شعرا، تماما مثلما أن التخلص منه لا يفضي بالضرورة إلى الشعر، الشعر أمر متجاوز للنثر والنظم معا، هو حالة وصناعة صعبة يتحصل الشعراء منها على أقدار تتوازى مع مواهبهم وخبراتهم ومهاراتهم. هل مل النقاد من أشعار وشعارات القضايا وأصبح اشتغالهم على الحالة الفنية والصور الإبداعية؟ لا أستطيع التعميم على النقاد، فمنهم من ما زال مشغولا بالشعارات والقضايا، ومنهم من ليسوا كذلك، سؤالك يذكرني بأننا لم ندرس الحركة النقدية بالشكل الكافي والدراسة ضرورية لمعرفة توجهات النقاد وما يعتري اهتماماتهم من تغيير، ثمة اعتقاد لدى البعض أن النقد لأنه دراسة لظاهرة يصعب أن يكون موضوعا للدراسة، وهذا غير صحيح، فالنقد يحتاج إلى تأمل وبحث وتحليل، تماما مثل منتجات الثقافة الأخرى. المتابع لقراءتك النقدية للشعر يلحظ اهتمامك بحواء الشاعرة.. ألا تستهويك أو تغويك شعرية آدم؟ للمرأة الشاعرة حضورها في منتجي النقدي، لكني لا أراه متجاوزا في الكم على الأقل لحضور الرجل، أعتقد أن العكس هو الصحيح، فمن كتبي حول الشعر أو الرواية ما لا تحضر فيه المرأة إلا لماما، لكن لعل ضعف الاهتمام بشعر المرأة عند البعض يجعل حضورها عندي أو عند أمثالي بارزا، وإن ما أنتجته وتنتجه المرأة من أدب اليوم لا يقل سواء في الكم أو الكيف عن ما ينتجه الرجل، ولا سيما في السرد، ولا أستبعد أن تتكاثر الدراسات التي تنظر إلى ذلك المنتج نظرة متخصصة. ما أثر الحمولات الأيديولوجية والفكرية على جمالية النص؟ الحمولات الأيديولوجية والفكرية خطر على الأبعاد الجمالية في النص، لكن غيابها يسقط النص في الصنعة والخواء، الوضع المثالي هو أن يكون التوجه الفكري حافزا للجمالي، ولكنها حالة توازن يصعب على الكثيرين تحقيقها، أما لو كان من الضروري أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، فأنا أفضل الجمالي لأنه من جنس الأدب، كما أنه الأصعب. ألا ترى أن تنازع الاشتغالات النقدية بين اجتماعي وثقافي أضعف المشهد النقدي السعودي؟ الاشتغال بالجوانب الفنية أو الجمالية أصعب في تقديري من الاشتغال بالقضايا الاجتماعية والثقافية، ومن هنا فهو أقل انتشارا، أما خطر الانشغال بالاجتماعي والثقافي فقط فواضح في إضعاف الحركة النقدية؛ لأنه ينحو بها للعموميات والنقاش في قضايا يسهل الهذر حولها، أما اكتشاف الجمالي فأكثر حاجة إلى الموهبة والحاسة الجمالية التي توازي حاسة الشاعر أو الكاتب، وحين يتحرك الناقد على ذلك المستوى، فإنه يتحرك بما لديه من حس شعري أو فني يعبر عن نفسه في قراءة بدلا من قصيدة أو نص أدبي، ولا شك لدي في أن صعوبة تحقق ذلك وتحقيقه تبعد البعض بل الكثيرين عن القراءة الفنية المبدعة. من يلفت حاستك النقدية اليوم من الأسماء الشعرية في السعودية؟ هذا سؤال ملغوم، فأي قائمة لمن أقدر من الشعراء ستسقط أسماء لا محالة نتيجة للنسيان، وحتى لو قلت «منهم فلان وفلانة» فإن المنسيين لن يقتنعوا، هذا إلى جانب أن القائمة بحمد الله ليست بالقصيرة أبدا، فمشهدنا الشعري غني ومن مختلف التوجهات والأطياف الشكلية والموضوعية، وفي تقديري أن لدينا اليوم من المواهب الشعرية ومن المنتج المتميز ما قد يفوق فترات سابقة. نود إفرادنا بخبر آخر عمل تشتغل عليه اليوم؟ لدي ثلاثة كتب قيد الطبع هي: «اشتغال النص، مشاغل القراءة» وهو مجموعة من المقالات حول الشعر والرواية، و«مواجهات ثقافية» ويضم دراسات باللغة الإنجليزية مع ترجمتها إلى العربية، وأحسب أن هذا الكتاب تجربة مختلفة في النشر على المستوى العربي عموما. هذا إلى جانب ترجمة لكتاب «جدل العولمة» للكاتب الكيني نغويي وا ثيونغو، والكتابان الأولان سيصدران عن دار طوى، والأخير عن مشروع كلمة في أبو ظبي.