أبطل فريق من الدفاع المدني محاولة انتحار لرجل في العقد الرابع بمحافظة بلجرشي، والغريب أن محاولة الانتحار هذه هي الثالثة لنفس الرجل والنجاح الثالث للدفاع المدني بثني المنتحر وإقناعه بالعدول عن محاولته. وتكرار المحاولة والإقناع يمكننا من قراءة مشهدية الانتحار بأننا نقف على الحالة في حينها حتى إذا زالت تناسينا وضع المنتحر وتركناه (ياكل في نفسه) حتى يصل إلى الحافة مرة أخرى. ألم يكن بالإمكان متابعة هذه الحالة والوقوف معها كي لا يتكرر نفس الهاجس؟ وكثيرا ما كتبت عن الاعتلال النفسي الذي أصابنا جميعا، لكنه اعتلال لا يتم الاكتراث به بصورة حقيقية توقف نزيف إهدار قوانا ودخولها أنفاق الهواجس، فبين فترة وأخرى تظهر أخبار عن انتحار أشخاص بطرق مختلفة ويتبع ذلك الخبر تأكيد بأن المنتحر مريض نفسي ولا أعرف لماذا هذا الإتباع. ولو أردنا الوقوف مع مثل هذا التعليل فإنه يقودنا أولا إلى التبرؤ من أن نكون نحن (كمجتمع) مسؤولين مسؤولية مباشرة (أو غير مباشرة) عن ذلك الانتحار وأن السبب مرض أدى بذلك الفرد إلى الإقدام على إنهاء حياته وأرى أن هذا التبرؤ المبطن إدانة مبطنة أيضا لكل المجتمع، فإيراد كلمة مريض نفسي هو الطوق الذي نقفز إليه متخففين من ذنب المنتحر ومحاولة للهروب من تبعات ما أحدثه ذلك الفرد، فحين نصم أي فعل لا نرتضيه يقوم به شخص ما بأنه مريض نفساني هو عذر واه إذا علمنا أننا جميعا مرضى نفسانيون بدرجات متفاوتة لا تظهر عند بعضنا وتصل عند البعض إلى مرحلة التهور بإزهاق الروح، وليس هناك مريض نفساني يقدم على الانتحار فجأة، بل تسبق ذلك الفعل سمات مرضية تظهر من خلال تصرفات تشير إلى تقدم الحالة المرضية لدى الفرد.. إذ ثمة أجراس تقرع قبل حدوث فعل الانتحار، هذه الأجراس لا نتنبه لها وإن ظلت تقرع لسنوات ويعود ذلك لعدة أسباب، أهمها غياب المسؤولية الاجتماعية والوعي بأهمية استقبال رسائل المرضى وغياب المسؤولية الاجتماعية، ستؤدي إلى مضاعفة الأعداد المقبلة على الانتحار البدني وأقول البدني للتفريق بين كثير من أنواع الانتحار، فهناك منتحرون بصور مختلفة في حياتهم وافتراقهم عن واقعهم بما يعد انتحارا ذا طابع متشكل وفق حالة كل منا. ولو عدنا إلى الأرقام فإنها تقول إن نصف مليون يرتادون العيادات النفسية، كما أن الأرقام تؤكد تنامي وانتشار الأمراض والأعراض النفسية، والنصف المليون المذكور هم من اقتنعوا بضرورة العلاج، بينما هناك أعداد غفيرة بعيدة عن هذا الاقتناع، وفي حالة البحث عن السبب تجد أن الجميع يركز على جملة ضعف الوازع الديني وهي جملة مخاتلة كوننا منذ نعومة أظافرنا ونحن نتلقى الدروس الدينية داخل البيت والمدرسة وفي المسجد والشارع وكلنا يعرف تماما أن من ينهي حياته فقد ارتكب جرما لا يغفر، فالمنتحر يعرف هذه المعلومة ولم يصل إلى فكرة الانتحار إلا تحت وطأة مرض مغيب للمعلومة ومغيب لخطورة ما يقدم عليه الفرد. الذي أود قوله إن المنتحر يبث رسائل متعددة لمن هم حوله لكن لا أحد يصغي جيدا لتلك الرسائل، وسبب عدم الإصغاء غياب التعاطف مع الحالات التي تمر بظروف قاهرة ولا نجد جهة تتبنى قضاياهم الحياتية وما يمرون به من ضوائق مختلفة.. ولأننا نعيش هذه المحاولات المختلفة فإن الأمر يستوجب إعادة قرع الجرس بين الحين والآخر علنا نتنبه لمن عصرته الظروف ودفعته لأن يتخلص من نفسه، فتخلصه من نفسه إدانة لنا جميعا.