بلا شك، نحن مع الحرية المسؤولة. الحرية التي لا تعني الفوضى والعنف والقتل والدعوة للعنصرية والطائفية ونحر الأوطان من الوريد للوريد. ومؤمن أيضا بمقولة البقاء سيكون للأفضل. منذ سنوات، صار بإمكان كل واحد يملك بعض المال، تقريبا في حدود مائتي ألف ريال، أن يمتلك قناة فضائية (في النهاية هي مجرد جهاز فيديو)، وبالتالي يصير الآمر الناهي، المالك والمعد والمخرج والمصور وحتى المذيع إذا أقتضى الأمر. يسجل ويعرض ما يؤمن به ويحلو له، وأنا أتحدث هنا عن بعض قنوات تتكلم بلسان ضاد ركيك. تلك القنوات التي يمكن تسميتها بقنوات الطفرة الثانية. قنوات من كل بحر قطرة التي أغلبها بلا بوصلة واضحة، والتي تحس أن الذي يديرها شخص مزاجي، مثل رجل جالس في استراحته العامرة، مستلقٍ على ظهره، يبدل ويغير ما يحلو له، ثم ينام ولا يعرف ماذا سيقدم غدا من مادة إعلامية. كل شيء يأتي حسب التساهيل والبركة والفزعات وطلبات الأهل والأصدقاء. قنوات ذات نكهة دينية وشعرية شعبية وإقليمية وترفيهية، والغالب بلا هدف/ شخصية. إنهم يبيعون الوهم والخرافات والشعوذة بالمجان. يمارسون التخوين والابتزاز السياسي والتسول العلني بدون خجل والعهر الجسدي والفكري. دكاكين ثقافية فيها كل شيء إلا الخطاب الثقافي والسياسي والتنويري. تجد سكاكين العنصرية وقوارير العشائرية وأطباق المذهبية والطائفية معروضة بجوار بعض، ومرصوصة كعلب ساردين في محل بائس ومغبر ومظلم. قناة واق الواق مثلا، بثت محاضرة لشيخ وأمامه جمع غفير من المنصتين، فيتحدث عفا الله عنه وعنا عن الصوت الذي يخرج من جسد الإنسان أكرمكم الله، ودور الشيطان في ذلك لصد المسلم عن الصلاة! كأن مشاكل مجتمعه ووطنه حلت وكل الموضوعات انتهت ولم يبق إلا هذا الموضوع التافه، ليتحدث فيه بتفصيل ممل وغير علمي. ذات صدفة، قابلت أحدهم، من ملاك تلك القنوات الذين يبثون من دول مجاورة، كنت أعرفه من قبل كانسان بسيط خجول، لكن عندما قابلته هذه المرة، ألفيته يجلس كطاووس بلا ريش ويتكلم بلغة واثقة، وعن توظيفه للسعوديين، وكأنه رائد القنوات الفضائية.. بينما قناته هي مجرد جهاز فيديو كبير تعرض ما هب ودب، ويغلب عليها الطابع الإقليمي الذي بلا ملامح، لا تعرف لها شخصية. تجد فيها صور المطر هنا وهناك، وبعض الحكايات الشعبية والشيلات، ومقاطع مزايين الغنم والإبل، ولقطات كوميدية سبق عرضها عشرات المرات في طول وعرض قنوات الوطن العربي، وبعض المحاضرات الدينية المعروضة من قبل لبعض الشيوخ النجوم. [email protected]