كثر مدّاحو الصمت في تراثنا العربي، وكثرت الحكم والأبيات الشعرية في تبجيل الصمت على حساب الكلام .. فلا يستطيع أحد إنكار حكمة تلك المقولات التي تهطل عليك فجأة كنص مقدس في بعض المواقف! ما أثارني أنها في خطابها تستخدم لغة عمومية (إذا كان الكلام من فضة.. فالسكوت من ذهب). ولكن ماذا إذا كان (الصمت حالة من حالات الكلام ) كما يقول سارتر؟ إن ما نراه من مواقف، سواء أكانت من العامة أو النخبة، سنجدها اتخذتْ حالتين: الصمت أو الكلام كمحاولة للتعبير بأبسط الطرق، ولكن ما لم يُجِدْهُ البعض هو توقيت الصمت، فتحول صمته المبالغ إلى نطق بدون ثيمة الصوت! إن فائدة الصوت كأداة تعبيرية ليست بالضرورة أن تكون الأداة الوحيدة للتعبير، فمثلا بماذا سنفسر اعتداء أحدهم على أملاكك الخاصة وعدم نبسك بأي حرف تجاه ذلك، إلا.. بالرضا؟! وقد قالت العرب قديما: (السكوت دليل على الرضا)! لقد كان (هايدجر) يشيد بالشاعر الفرنسي (رينيه شار) باعتباره من القلائل الذين أدركوا حقيقة اللغة وخداعها.. فالكلام أيضا يمكن أن يكون حالة من حالات الصمت!.. فهذه الثرثرة الكثيرة الذي نقرأها هنا وهناك لا طائل منها سوى التذكير بوجود صاحبها ليس أكثر، و إلا ماذا سيحدث لو متَّعَنا أصحابها بصمتهم وأفسحوا المجال لغيرهم. إن هذه الأصوات الفارغة والتي أزعجتنا بأبواقها الكثيرة كان الأحرى بها أن تجرب فضيلة الصمت، وأن تحاول أن تأخذ دور المتابع ولو لمرة واحدة.. ولكن هذا أيضا سيجعلنا في مأزقٍ آخر، فقد يقول أحدهم: لماذا لم يبْد الكاتب الفلاني رأيه في هذه القضية؟ فحتى صمته إن صمت سيأخذ هالة كبيرة ربما تصرف الرأي العام عن القضية الأساس، فيصبح صمته حالة أشبه بالكلام! لقد سيطر هؤلاء على منابر الكلمة وحاولوا أن يوهموا الناس بأنهم يمثلون.. ويمثلون.. وإلى آخر القائمة، ولكنهم تناسوا أو غاب عنهم أن فكرة الإعلام الجديد أو الإعلام الإليكتروني جعلت كل فردٍ يمارس إعلامه كما يريد على حد تعبير أحدهم، مما أدى إلى زيادة الإزعاج (و يا ليل مطولك) ..! لن أنكر بعض الأسماء التي تحترم ما تقول قبل أن تصدر حرفاً واحدا للناس، ولكن كمية الضجيج في تزايد مستمر تحرمنا من سماع تلك الأصوات، إننا وللأسف الشديد شعوب تحب الثرثرة ولا تصغي لخطوات الوقت الهارب.