في عالمنا العربي عامة، وفي مصر خاصة، تحتل مسألة الأجيال العناوين البارزة في الدراسات النقدية. ومصر لها الريادة، إذا كانت هناك ريادة في ذلك ! أعني التقسيم إلى أجيال.. ففيها تقرأ دائما عناوين تحمل مصطلحات جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل التسعينات، وعندما تسأل عن جيل الثمانينات تسمع من يقول إن هذا الجيل يقع في المنطقة الرمادية.. وبالطبع لم نسمع حتى الآن مصطلح جيل العشرات من الألفية الثالثة ولا جيل العشرينات التي بدأت سنواتها منذ ثلاث سنين! لا أصادف هذه المسألة كثيرا في الدراسات النقدية العربية المعنية ببلادها إلا نادرا في بعض الدراسات السورية أو المغربية لكنها ليست بالاتساع المصري، وهذا أمر طبيعي ففي رأيي أن هناك خصوصية للبلاد العربية تتجلى في منجزاتها الأدبية والفنية، رغم شعارات القومية التي سادت في السياسة منذ الخمسينات، ففي رأيي أن ما يجمع بين الآداب العربية بالأساس هو اللغة التي تكتب بها الأعمال الأدبية أكثر من الموضوعات، أعني طرائق الكتابة والتشكيل الأدبي.. وهذا الملمح الأخير يمكن أن يكون، بل هو كذلك فعلا، ملمحا عالميا، أو يسعى أن يكون كذلك أي غير منفصل عما يحدث في العالم من تغير في الكتابة الأدبية.. وهكذا أرى أن تقسيم الأجيال في مصر وفقا للسنوات العمرية أمر شكلي ساذج قد يصيب مرة لكن خطأ دائما وشائعا أساسه استسهال الدراسة وخاصة في الجامعات.. ليس لأنه قد استقر على أن عمر الجيل 25 سنة من الزمان، لكن لأن التحولات الأدبية والفنية ترتبط بالأساس بالتحولات الكبرى في الحياة. ففي مصر مثلا يمكن أن يكون عصر الخديوي إسماعيل بداية مرحلة جديدة من التمهيد للتطور في كل شيء بعد كثافة البعثات الأجنبية، وبعد ما جرى لمصر من تحد فرضه الاحتلال بريطاني عام 1882 لكن التحول الأبرز كان بعد ثورة 1919 وهنا يمكن أن يقال جيل ثورة 1919 علامة على الانطلاقة الأدبية التي ظهرت مع جيل جديد يحاول أن يؤسس للأشكال الأدبية على نحو أكثر تقدما ومواكبا لروح العصر في الشعر والقصة والرواية والمسرح والفنون التشكيلية. وبعدهما في الخمسينات صار التجديد علامة كبيرة في معظم الأقطار العربية التي كان بعضها قد حصل على استقلاله من الاحتلالين البريطاني والفرنسي أو استقرت فيه نظم الحكم.. لذلك يمكن أن يقال جيل ما بعد الحر ب العالمية الثانية وتحته تنطوي كل ثورات العالم العربي بما فيها ثورة 1952 التي رغم شعاراتها السياسية فتحت باب الثقافة أكثر على التغيرات الأدبية في العالم التي وجدت لها مكانا أكثر مما وجدت الواقعية الاشتراكية التي لم تنتج في مصر غير أعمال لم تجد رواجا كبيرا بين القراء لضحالة أكثرها وخطابه المباشر. نجد بعد ذلك في الستينات حركة تجديد كبيرة، أصلها عدم التوافق مع الأقانيم السياسية الجامدة وروافدها الاحتجاجات التي تقريبا شملت أوروبا عامة وفرنسا خاصة، وفي عالمنا العربي كانت هزيمة 1967 أيضا رافدا لها للرفض السائد للأشكل الأدبية الذي هو في رأيي شكل من أشكال الثورة يصنعه الأدباء والفنانون وشمل هذا التجديد بصفة خاصة القصة القصيرة والشعر. بعدها لم يتوقف التجديد الأدبي والفني في العالم العربي كله وحتى الآن. واحتلت الرواية مكانها الأكبر منذ السبعينات، ولهذا تفسير قد أعود إليه، بل تقدمت الرواية كل الأشكال الأدبية منذ ذلك الوقت وبسرعة تصدرت المشهد الأدبي كله. وهكذا يمكن أن نجمع السبعينات مع الستينات في بداية واحدة لأنه في الرواية اشترك الجميع. ويمكن للنقاد أن يجدوا لنا مسمى نقديا ما مثل جيل ما بعد 1967 على سبيل المثال.. وفي هذا لا يعلو صوت الأدباء بل بهدوء يفتحون الباب لموضوعات لم تكن مطروحة من قبل ويحتل منها المكان مساحة كبيرة وتشيع بينها حرية الخيال، لكن تظل في مصر حكاية التقسيم الذي اعتمد العشر سنوات علامة فارقة بينما تستطيع أن تجد بسهولة جدا روابط بين الكتاب الأكبر سنا الذين بدأوا بعد 1967 مع الكتاب الأحدث سنا الذين يكتبون حتى الآن، فكل ما قيل في الموضوع مثلا عن الكتاب الشباب أنهم كسروا التابوهات وكتبوا عن المهمشين تجده عند كثير من كتا ب ما بعد 1967.. لايعني هذا أن الأحدث سنا لم يقدموا جديدا لكن يعني أن ماكان عند الأكبر سنا مساحة صغيرة صار باتساع سببه الأساسي كثافة أعداد الكتاب الجدد. وحتى بعد أن ظهرت أعمال تستلهم الميدبا الجديدة، الإنترنت، بشّر البعض بسرعة بكتابة جديدة لكنها لا تستطع حتى الآن أن تكون نهرا أدبيا رغم أني وأنا طبعا من جيل قديم ساهمت فيها برواية «في كل أسبوع يوم جمعة» ولم أعد إليها لأني اكتشفت أنها لاتعطيك أي إمكانات متجددة في التشكيل الأدبي فهي صياغات واحدة لأن أصلها التقني ثابت لا يتغير. وهكذا سكت التبشير، وفي مصر مثلا لا تجد أكثر من ثلاثة أو أربعة أعمال حتى الآن لكل الكتاب الشباب، لكن ألم يحدث تغير كبير في مصر مثلا وفي العالم العربي الآن.. حدث طبعا.. وهو ثورات الربيع العربي التي لابد أن تصنع جيلا جديدا.. جيل لم تظهر ملامحه النهائية بعد وإن ظهرت تجلياته في بعض الفنون الأكثر والأسرع استجابة مثل الرسم على الجدران، الجرافيتي. والأفلام التسجيلية والروائية القصيرة والغناء والموسيقى والشعر العامي.. وهكذا يمكن القول إن مسألة الجيل تتشكل الآن بعيدا عن العمر شأنها دائما رغم التقسيمات الساذجة القديمة.. ويمكن جدا أن نجد كتابا كبارا يستلهمون روح هذه الثورات في انتصاراتها أو هزائمها جنبا إلى جنب مع الشباب الذين سيكونون الأكثر عددا والذين سيكون لهم يوما ملامح يقع عليها النقاد.. وحتى إذا استثنوا الكبار منها فلن يكون الأمر معيبا لأن للكبار إسهاماتهم السابقة.. لكن هل يعني التقسم إلى أجيال نهاية الأجيال السابقة.. بالطبع لا.. وهذا أيضا موضوع قد نعود إليه مرة أخرى. [email protected]