في فيلمها «شكوى»، تقدم المخرجة هناء العمير قصة صغيرة عن أزمة عابرة تتلخص فيها معاناة غائرة في حياة أسرة سعودية. موقف من تلك المواقف التي من الممكن أن تمرق دون اكتراث، في حين أيضا من الممكن جدا أن تكون بمثابة منعطف وجداني يدفع الإنسان إلى وعي وإيمان وإحساس أكثر عمقا بما دار ويدور حوله، إحساس يلامس الضمير ويخالج الروح ويغيرها ويقودها إلى التسامح والغفران. ثمة لحظات تنبثق فجأة في يوم معتاد، هكذا دون سابق إنذار، لتكون منبها وجرسا يوقظ من سطوة الغضب، لعل تلك اللحظات هي ذرة تأجج وضع خانق أخذ يتمادى في غيه حتى تفجر.. من هذه النقطة المفصلية العصية على الرصد حاكت العمير قصتها لفيلمها القصير والمكثف في 21 دقيقة. فيها استدعت بطلة شابة تدعى «عنود»، (الممثلة زارا البلوشي) تواجه أزمة نفسية بفعل حدث مؤرق شكل صدمة عميقة، جعلها تتلبس حالة عصابية تميل إلى العدوانية.. لكن «عنود» المتماسكة حتى بلوغ اللحظة للذروة، تنهار في حالة ضعف أو حالة هياج، ولا تجد مخرجا سوى أن تتقدم بشكوى ضد زميلتها.. شكوى ربما تفرغ فيها كبتها وضيقها الناجم عن ما يكدرها. هي في ظاهرها شكوى نتيجة ضرر في العمل بسبب تقصير زميلتها، ولكن الحقيقة تكمن في الخلفيات التي جعلت من عنود عدائية لهذه الدرجة.. هناك شكوى دفينة تعتمل في دخيلتها ربما لو بثتها ستجد من يخلصها من أثر الحدث المؤرق. وتنساب الحكاية.. عنود من بيئة متوسطة الحال، أو حتى تقترب من الفقر، تعيش في بناية قديمة وشقة متهالكة. موظفة إدارية في مستوصف تستقبل فيه عشرات الحالات من المراجعين والمرضى وترتب أمر زياراتهم للأطباء. ليست لديها طموحات تريد تحقيقها، هكذا يبدو، لكن دموعها تشي بأنها تتمنى حياة أفضل. أو على الأقل تتخلص من وطأة ذكرى أليمة، أورثتها عصبية وشراسة، وأدى كبتها لمعاناتها في لحظات وحدتها إلى النحيب الحارق والبكاء المر. والدها (الممثل إبراهيم الحساوي) العاجز عن الحركة بشكل طبيعي ويحتاج إلى رعاية مستمرة ، لكنها ترفضه لأنه كان قد ترك العائلة في فترة سابقة وتزوج بأخرى ما ترك جرحا غائراً في روح عنود. لم تستطع أن تسامح والدها.. ربما تسامحت الأم (الممثلة أمل حسين) وغفرت لزوجها ابتعاده عن الأسرة، لكن عنود تأزمت للدرجة التي أخذت فيها والدتها التخفيف عنها وإقناعها بأن أباها مريض ويحتاج إلى رعاية. عندما تركت الأم عنود في البيت لرعاية الأب انبثقت تلك اللحظة المشحونة بالمشاعر والحس الإنساني والشعور بالشفقة. حدث ذلك السحر الذي يغير المشاعر ويعيد الإنسان إلى توازنه الطبيعي. أخذت تساعد والدها في حركته وأكله.. تأملته، أمسك بيدها بحنان بالغ، وكأنه يقول لها: اغفري لي، النظرات التي تقول كل شيء دون كلام. شعرت به، خفق قلبها، اعترت روحها مسحة ملائكية. سهرت بقربه طوال الليل وهو نائم.. تحولت إلى إنسان آخر، متسامح، محب، حنون.. ذهبت في صباح اليوم التالي إلى عملها في المستوصف بروح جديدة وأمل جديد ، فوجدت الشكوى التي وضعتها بالأمس على مكتب المدير وقد أعيدت إلى مكتبها، أخذتها ومزقتها وتخلصت من حدتها وشراستها. الفيلم حفل بصورة حاذقة أدارها التقاطها عوض الهمزاني، بقدر عالٍ من الحرفية والرشاقة، ونفذ التصوير والإضاءة عمرو العماري وجيتين، وقام فريق مجموعة ثري تو آكشن المتمثل في طلال وعبدالرحمن عايل وعبدالمحسن الضبعان، خالد السيف، منصور البكر، بكر فلاتة. وقد سبق للمجموعة إنتاج خمسة أفلام قصيرة : فيلم «غزو» للمخرج عبدالرحمن عايل، «سؤال» للمخرج عبدالله العثمان المصنف «فيديو آرت»، «نصف دجاجة» للمخرج عبدالله الأحمد و«مقعد خلفي» من إخراج هند الفهاد و«وافد» للمخرج طلال عايل.