في طفولتي كانت تخلبني مجلة «ريدرز دايجست» الأمريكية بما فيها من تفصيلات غريبة وتأثير لوني مدهش ورائحة ورق مميزة، أذكر أنني أثناء تصفحها وقعت عيناي على قصة مصورة تحوي عبارات مرتبة بهذه الطريقة: (أحب الشيكولاتة، أهوى العصافير، تعجبني الثلوج... إلخ)، ثم تنتهي بصورة لطفلة دامعة ذات سحنة داكنة تقول: «لكني أتساءل: لماذا لا يحبني بعض الناس؟».. أذهلني هذا التساؤل، من هم الذين يكرهونها بالضبط؟، يومها انقضضت بالسؤال على من حولي كي أفهم، أدركت فيما بعد معاناتها كما أدركت مفهوم «العنصرية» في العالم، وقد كانت بالنسبة إلي صدمة معرفية أولى. العنصرية تيمة عولجت كثيرا على مستويات عدة، وخصوصا المستوى السينمائي، لكنك تراها بشكل مختلف في الفيلم التسجيلي الألماني (وايت أون بلاك) للمخرج باغونيس باغوناكيس مع المنتج وولراف، فقد شكلا فريق عمل ينتمي إلى المنجم الذي جاء منه الأمريكي مايكل موور في مكاشفة المجتمع بأخطائه وفضح ممارساته اللا أخلاقية عن طريق حمل الكاميرا وتوجيهها. أحداث الفيلم حقيقية لا مجال فيها للادعاء، يقوم المنتج ونتر وولراف على مدى سنة كاملة بالتظاهر كرجل زنجي ويسمي نفسه كوامي أوغونو بعد أن طلى بشرته باللون الأسود وارتدى الشعر المستعار ليبدو كصومالي حقيقي، تنكر في هذه الشخصية لأكثر من سنة بينما يخفي معه كاميرا لتوثيق المواقف، وهنا تبدأ رحلته. يختلط بالألمان في الأماكن العامة، وبمجرد أن يصرح باسمه وبجنسيته الصومالية يواجهه المجتمع الشرس الذي يلقي بقناع المصالحة جانبا وينطق بفوقية: «أفريقيا للقردة بينما أوروبا للبيض».. ثمة بائعة في أحد المتاجر تأبى أن يجرب إحدى الساعات باهظة الثمن بينما تتيح هذا لرجل أبيض، وأخرى تشمئز منه ولا تقبل أن يستأجر لديها المسكن الذي يريد، ثم يتنقل الفيلم بين الكثير من المشاهد التي ترفضه، وبالطبع فليست كل المشاهد بنفس القدر من السوء، صحيح أن غرض الفيلم هو إيضاح صور العنصرية، إنما أسهل طريقة لقتل أي فيلم تسجيلي هو إجباره على إثبات شيء ما في كل لقطة، فمهمته تتركز على النقل بما أنه ليس من أفلام الرسالة أو الدعاية، يعرض المشكلة بحياد ثم يختتم دون أن يتخذ قرارا.. بعد هذا تأتي اللحظة الكارثية، لحظة لا مبالاة الناس بعد علمهم بوجود الكاميرا باعتبار أن ما فعلوه هو السائد، ثم هجوم بعض الصحف الألمانية على الفيلم لأنه أسهم في تعرية جو الكراهية العام.