في إحدى الليالي، كان كل شيء على ما يرام، النسمات عليلة، والهدوء يعم المكان، والقمر نوره ساطع قد أضاء الكون وأزاح الظلام. أما المشاعر فكانت محلقة في فضاء الأحلام، ذلك الفضاء الواسع الحر الذي يمنح الفكر والخيال أقصى مدى، ولا يعترف بحواجز المستحيل والممنوع والمسموح. لكنني لم ألبث طويلا حتى عدت من العالم البعيد إلى واقع الحال في لمحة بصر حينما بادرتني قائلة: ما بك صامت لم تعد تنبس ببنت شفه؟! لم أحر جوابا يفيد فقد تنافرت الكلمات وتشتتت العبارات، بينما واصلت هي الحديث مطالبه إياي بالإصغاء لما سوف تخبرني به. أدركت حينئذ أن لديها ما تروم الإفصاح عنه، فقلت: ها أنذا أسمع وأرى، تلعثمت برهة كأنما ارتج عليها ثم بادرت متسائلة: أما تخشى الفراق؟ أجبت: بلى، لكن أي فراق ذلك الذي تعنين، وما داعي هذا السؤال المخيف؟ قالت: سأحكي لك قصتي التي أثارت سؤالي في مخيلتي. لقد كنت أحرص كل صباح على الاسترخاء في حديقة بيتنا الصغيرة، والحقيقة أن أكثر ما كان يسترعي اهتمامي ويأسر فؤادي هو رؤية العصافير جذلانة، تطير وتحط بين الشجيرات والورود مزقزقة بأعذب ألحانها. وبحكم ترددي اليومي على ذات المكان بدأت ألاحظ أن ثمة طائرين لا يكاد يقع نظري عليهما إلا وهما سوية، يحلقان معا، ويشتركان فيما يتوفر لهما من طعام وشراب، كنت أراهما فرحين ببعضهما، يصولان ويجولان في أنحاء الحديقة الخضراء، ولا غرو أنني بت أسعد أيما سعادة لما اعتدت على مشاهدتهما عند بزوغ شمس يومي الجديد. ولسبب ما غاب عن مخيلتي أجل تلك السعادة وتصرم ساعاتها حتى رأيت أحد العصفورين وحيدا هزيلا قابعا تحت غصن شجرة كان هو ورفيقه الغائب بالأمس يغردان فوقها بصوت شجي ندي، يطرب السامع ويبعث الأمل في نفسه. فعلمت يقينا ذلك الحين أن شريك حياته ذهب إلى غير رجعة. عند هذا الحد من الحكاية استوقفتها قائلا: لقد فهمت مرادك، وأنا بلوت الدهر، وأدركت أن الإنسان في غمرة سعادة قد يفقد أعز ما يملك، فما أغربها من دنيا! وما أقسى ظروفها خاصة تلك التي تبعد الأحباب وتشتت شملهم! لكن مع كل هذا لندع المقادير تجري في أعنتها، ولنتناس شأن الفراق؛ فالتفكير به عبث يفسد الحاضر والمستقبل. م. عايض الميلبي