وصفني الأخ الصديق الأستاذ عبدالله أبو السمح في مقاله ب«عكاظ» (الأربعاء الماضي 17/4/1434) الذي عنونه ب«الإجابة في سنابل السعودية»، بأنني أحد أعلى الأصوات المنادية بإنشاء صندوق سيادي سعودي وذلك «شرف لا أدعيه وتهمة لا أنفيها» في إشارة منه إلى مقال لي نشر في «الشرق الأوسط» (عام 2004)، وآخر نشر في «الاقتصادية»، (في أكتوبر من العام الماضي 2012) بعنوان «أما حان الوقت لتأسيس صندوق السعودية السيادي، واللحاق بالركب؟». وما استتبعه كل منهما في مواقع التواصل الاجتماعي من مقالات ونقاشات وتعليقات، بين مؤيدة ومعارضة. ولكن ليسمح لي أخي أبو السمح بمناقشة بعض مما اشتمل عليه مقاله من تناقضات ومغالطات من خلال النقاط التالية: أولا: إن المرحلة الحالية تتطلب من المتخصصين في مختلف المجالات، وعلى رأسهم الاقتصاديون السعوديون، الإسهام بصورة صادقة بالآراء والأفكار التي تساعد على تعديل مسار اقتصادنا السعودي ليكمل مسيرته ويساهم في تحقيق مستوى معيشة أفضل للجيل الحالي، باعتبار ذلك مصلحة عليا لوطننا الغالي. ولأن فكرة إنشاء الصناديق السيادية (صناديق الأجيال القادمة) تحاول تحقيق مثل هذا التوازن، وبالنظر إلى نجاح العديد من الدول في تطبيق هذه الفكرة متجاوزة الكثير من التخوفات وهي تخوفات تلازمنا وتدفعنا الى التردد والاحجام عن تنفيذ بعض الأفكار الناجحة ، فإن المملكة بتبنيها هذه الفكرة، لن تعيد اختراع العجلة، فكل ما تتطلبه العملية، هو محاكاة التجارب الأخرى، والاستفادة منها، بما في ذلك وضع المعايير والضوابط التي تضمن شفافيتها، كما تضمن حوكمة فعالة. والأمثلة الناجحة للصناديق السيادية القائمة عديدة، لا تقتصر على الصناديق الخليجية وصندوق النرويج، (وقد استبدل مقال أخي أبو السمح النرويج بالدانمارك خطأ، وفصل الحديث حولها، غير مدرك أنها لا تملك صندوقا سياديا) بل إن هنالك أكثر من أربعة وعشرين صندوقا سياديا رئيسيا حول العالم، لدول عديدة أخرى، منها: الصين وسنغافورة وروسيا وهونج كونج وأستراليا وكوريا الجنوبية، بل حتى القارة الافريقية بدأت تدخل هذا المجال وليس أدل على ذلك من ليبيا والجزائر وأنجولا وغيرها. 3 أسس للصناديق ولا بد من أن نبين هنا أن هذه الصناديق تستند في نهجها الاستثماري على الأسس الثلاثة التالية: 1- عدم اقتطاع مبالغها من الاحتياجات المحلية، أو من الميزانية الحكومية السنوية، كما يعتقد أخي أبو السمح وكما ورد في صلب مقاله، بل إن تلك المبالغ هي عبارة عن فوائض مالية نفطية متحققة توضع في الصندوق السيادي، بعد أن يكون قد أخذ في الاعتبار كل الاستثمارات والاحتياجات اللازمة لتنمية الاقتصاد السعودي. وبذلك يتم ضمان تحقيق التوازن الذي ذكرناه بين متطلبات الجيل الحالي والاجيال القادمة. 2- قيام هذه الصناديق على نهج التنويع، فلا تركيز على قطاع واحد، ولا على استثمار في دولة واحدة. وهذا التنويع بشقيه ضروري وأساسي للتقليل من جميع المخاطر المحتملة. ويمثل الوضع الحالي للاقتصاد العالمي الفرص الرخيصة المغرية للعديد من الصناديق السيادية حول العالم؛ بسبب ما لحقه من أزمات مالية وائتمانية متلاحقة أدخلت العديد من اقتصادات العالم الرئيسية الى مرحلة الكساد، وإفلاس العديد من الشركات والمصانع، وعرض بعضها بأقل الأسعار بحثا عن مشترين يوفرون لها سندا ماليا يمكنها من الاستمرار. وأمثلة تلك الفرص الرخيصة المغرية كثيرة. ونحن لم نفاجأ حينما أعلنت الصناديق السيادية لكل من الصين وقطر شراءها حصة (10%) من سلسلة مطارات بريطانيا بما فيها مطار هيثرو، وشراء صندوق قطر السيادي حصة (5%) من شركة الطاقة العالمية «توتال»، وغير ذلك كثير من النجاحات التي تحققها الصناديق السيادية للدول المختلفة. 3- تحقيق التعريف بالمناخ الاستثماري الأفضل لاقتصاد الدول صاحبة الصندوق السيادي، والضغط في هذا الاتجاه من خلال عضوية الصندوق في مجالس الإدارات؛ للعمل على نقل التقنية، وإتاحة فرص تدريب الشباب. وذلك أن الحكومات تعلم انه بشراء صناديقها السيادية حصصا في ملكية بعض الشركات والمصانع الرئيسية في العالم، ودخولها مجالس ادارتها، تستطيع دفعها لفتح فروع لمصانعها في دول الصناديق السيادية. وكما نعرف جميعا، فإن المملكة تستورد معظم احتياجاتها، وتعد أكبر سوق في المنطقة للعديد من السلع الأساسية، ومنها السيارات والأجهزة الكهربائية والالكترونية وقطع الغيار وغيرها. وبالرغم من مرور عقود عديدة على هذا الوضع، لا نجد الشركات المصدرة قد افتتحت فروعا لمصانعها أو أنها عملت على نقل التقنية وتدريب السعوديين وإيجاد فرص عمل إضافية لهم مع الاسف. وعليه، فإن استثمارات صندوقنا السيادي قد تحقق لنا هذه الميزة الاضافية. وإذا ما عرفنا أن متوسط العائدات السنوية للصناديق السيادية حول العالم يراوح بين (5-7%) وهو عائد أعلى من معدل التضخم العالمي السنوي ، أدركنا أن هذا العائد يمثل عائدا حقيقيا للحكومات، هذا عدا الزيادة في القيمة الحقيقية للأصول المشتراه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهو أفضل بكثير من إيداع معظم هذه الفوائض في سندات الخزانة بسعر فائدة يقترب من الصفر، بل يؤدي تدريجيا الى تآكل قيمتها الحقيقية وهو الوضع الذي نتعامل به مع فوائضنا الضخمة في الوقت الراهن. وتفتخر قطر بأنها بحلول عام (2020)، سيتم تمويل ميزانيتها بالكامل من العائدات السنوية لصندوقها السيادي، وإن كان اقتصادها أصغر حجما من الاقتصاد السعودي. الصندوق الكويتي وحقائقه ثانيا: لقد كرر الأخ أبو السمح الحديث عن فشل تجربة الصندوق الكويتي ذكره في مقاله السابق ومقال آخر سابق عليه وكأني به لا يعلم بالتطورات وتوقفت ساعته عند فترة حرب تحرير الكويت. حيث أملت ظروف الحرب وما نشأ عنها وقتها، على الحكومة الكويتية استخدام موارد الصندوق لتمويل جزء من تكاليف حرب التحرير، وأيضا تمويل الأسر التي تضررت وعاشت فترة طويلة نسبيا خارج الكويت، إضافة الى استغلال البعض هذه الفترة في الاستفادة من بعض أموال الصندوق. ومع كل ذلك، فإن هذا الصندوق قد تمت إعادة بنائه لقناعة المسؤولين الكويتيين بأهميته الكبيرة للأجيال القادمة، وهو الآن يمتلك أكثر من (400) بليون دولار، وتشرف عليه إدارة كويتية ذات كفاءة من طراز رفيع. وليس أدل على ذلك من تصريح رئيسه أمام تجمع منتدى دافوس العالمي في يناير الماضي (2013) بأن الصندوق قد حقق العام الماضي عائدا استثنائيا يقدر ب (17.5%). وبالتالي، فالحكم على صندوق الأجيال الكويتي بأنه قد فشل، حكم غير صحيح وهذا يؤكد إصراره على المغالطة، ولا يستند الى الوقائع القائمة على الأرض. وفي الوقت الذي يجب أن تتمتع هذه الصناديق بالشفافية، فإنها لم تعد مشكلة في ظل إنشاء المنتدى الدولي للصناديق السيادية عام (2009) والذي كان يستضيفه صندوق النقد الدولي في واشنطن، وتتنافس حاليا بريطانيا والكويت على استضافة أمانته العامة والذي هدف من بين ما هدف إليه، إلى ضرورة تمتع هذه الصناديق السيادية بالشفافية المطلقة. وجميع الصناديق السيادية الخليجية أعضاء في هذا المنتدى، وليس هناك ما يمنع من أن ينضم الصندوق السيادي السعودي الى هذا المنتدى لضمان الشفافية وضمان الاستفادة من تجارب الصناديق الأخرى. الكفاءات السعودية الأكثر وأجدني أخالف أخي أبو السمح الرأي في ما ذهب إليه، وهو عدم وجود كفاءات سعودية تستطيع إدارة الصندوق، في حال إنشائه. فالمملكة ولله الحمد مليئة بالكفاءات في مختلف المجالات، بل قد نكون الدولة الخليجية الوحيدة التي تمتلك مثل هذه الكفاءات عددا، سواء في البنوك أو الشركات المالية، بما فيها شركات الاستثمارات وغيرها من المجالات المرتبطة. وحتى لو احتجنا إلى الاستعانة ببعض بيوت الاستثمار الدولية في المرحلة الأولى فإن ذلك لن يضيرنا في شيء، بل يوفر لكفاءاتنا فرصة إثبات الوجود، وهي قادرة عليه، بإذن الله. ثالثا: أستغرب إعطاء أخي أبو السمح انطباعا مؤداه «إما أن نستثمر محليا، وإما أن ننشئ صندوقا سياديا». فالمسألة ليست «إما هذا وإما ذاك». فمنذ بدأنا الحديث عن الفوائض التي يتم إنشاء الصندوق السيادي بها، تم تعريفها بأنها: «ما يفيض عن حاجة الاقتصاد المحلي سنويا من عائدات النفط». ومن ثم فإن الاستثمار المحلي ذو أولوية مطلقة لدى الجميع، ولا أحد يقول بعكس ذلك. وتحمل ميزانيات الأعوام الماضية مئات البلايين من الريالات قيمة استثمارات حكومية، سواء في مجال التجهيزات الأساسية، أو المشروعات العملاقة التي تزيد من القيمة المضافة للكثير من الخامات سواء الهيدروكربونية منها أو المعدنية. ونعرف تماما أن الانفاق الحكومي اقترب من تريليون ريال سنويا في العامين الأخيرين (الرسم المرفق). كما أن هنالك مبلغ 250 بليون ريال مودعة لدى مؤسسة النقد لمشروعات الإسكان ليتم انفاقها خلال السنوات الخمس القادمة في بناء مساكن وفك الاختناق القائم في هذا القطاع، وهنالك أيضا أكثر من 400 بليون ريال لدى صندوق الاستثمارات العامة يتم استثمارها في تمويل العديد من المشروعات الاستثمارية محليا. والمشكلة ليست في نقص رؤوس الأموال لتمويل الاستثمارات المحلية، بل في عدم كفاءة إدارة هذه المشروعات؛ مما نتج عنه تعثر العديد منها. وحسب «نزاهة» فإن هنالك أكثر من 3 آلاف مشروع حكومي متعثر، أنفق عليها مئات البلايين من الريالات. وبالتالي فلا يوجد تعارض بين ما يتم انفاقه لتحقيق التنمية المحلية واستثمار الفائض في صندوق سيادي مستقل كما أوردتم في صدر مقالكم. (الرسم البياني «الجراف» يوضح التطور التاريخي لميزانية المملكة خلال آخر 10 سنوات). رابعا: إن في الادعاء بأن صندوق «سنابل» يحقق الغرض نفسه الذي يحققه إنشاء الصندوق السيادي السعودي، تضليلا ومغالطة، وإسكاتا للمطالبين بإنشاء الصندوق السيادي، وذلك للأسباب التالية: لقد أنشئ هذا الصندوق منذ أكثر من 10 سنوات، وبدأ برأسمال قدره بليون ريال، وخلال كامل الفترة منذ تأسيسه وإلى الآن، لم يتجاوز رأسماله مع عوائده ال20 بليون ريال. وهذا المبلغ يعد صغيرا وهامشيا جدا، مقارنة بالفوائض الضخمة التي تمتلكها المملكة، والتي تصل حاليا إلى حوالى 3 تريليونات ريال، وذلك يمثل أقل من (0.0066%)، أقل من واحد من مائة في المائة، وهذه الاحتياطيات تمثل 500 ضعف رأسمال صندوق «سنابل»، وهذا هو أهم أسباب المغالطات والتضليل. فأي بعد جديد يمكن أن تضيفه استثمارات هذا الصندوق المحدود القدرة أخي أبو السمح. خامسا: لا أرى ما يمنع من استمرار صندوق «سنابل»، على أن يكون تركيزه على الاستثمارات المحلية، وتتم زيادة رأسماله إلى 10 أضعاف ليصبح 200 بليون ريال، لتغطية فجوات الاستثمارات الحكومية الناتجة عن التأخير أو التعثر في بعض المشروعات الحيوية. ويمكن في هذا المجال تأسيس شراكة بين الصندوق والقطاع الخاص برأسمال لا يقل عن 100 بليون ريال كما هو مقترح من بعض رجال الاعمال، ويكون بمثابة محرك أساسي لاستثمارات تحتاجها المملكة محليا. وفي الوقت نفسه يتم انشاء صندوق سيادي آخر يركز على الاستثمار دوليا وعلى اغتنام الفرص الرخيصة والسهلة المتوفرة حاليا في مختلف الدول، فيتم من خلاله استغلال الفوائض الضخمة المودع معظمها على هيئة سندات خزانة بعض الحكومات الغربية. وختاما، وفي الوقت الذي ننتظر على عجل توصية مجلس الشورى بإنشاء الصندوق السيادي بعد أن وافقت الأغلبية المطلقة على دراسته، وننتظر قرار المجلس الاقتصادي الأعلى بإنشاء الصندوق بناء على التوجيه الكريم للمجلس بدراسته، فإن علينا رفع مستوى الوعي لدى مختلف الفئات لدينا، بأهمية إنشاء هذا الصندوق، واعتباره يصب في مصلحة المملكة العليا، للاستفادة من فوائض العصر الذهبي الذي نعيشه، وتحسبا لما قد يطرأ في السنوات القادمة من تغيرات هيكلية في سوق النفط العالمي، وتفاديا لما حدث في الثمانينيات حينما انخفضت أسعار النفط العالمية، واضطرت الدولة الى الاقتراض محليا، ومن ثم تراكم الدين المحلي ليصل الى مستويات غير مقبولة عالميا، وهو ما لا نتمناه. ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. وعلينا كما نردد دائما: «توقع الأفضل والتخطيط للأسوأ». ولعلي أكرر البيت الذي ذكرته في مقالي الأخير: وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا