للفساد وجوه قد تحتجب بالأقنعة، أو تتدثر بالأغطية، فتختلط علينا ملامحها ونقف قليلا قبل أن نعرفها، لكن سرعان ما تسقط الأقنعة وتتبدد الرتوش فتتراءى الوجوه البشعة أمامنا، وجوه بملامح مخيفة مزعجة رغم كل المحاولات البائسة للتجمل والتخفي. للفساد أعين جاحظة ليست كالأعين. للفساد أيد طويلة غير نظيفة. للفساد أذرع ملتوية التواء الأفاعي لا الأغصان. للفساد آذان صماء عن سماع صوت الحق. للفساد أنوف كبيرة مفلطحة لا يزكمها أنين أوجاع الغلابة والفقراء. للفساد أرجل مهرولة نحو فضاء المال والمصالح الشخصية. للفساد شهية مفتوحة على الدوام لابتلاع أكبر قدر مما تجود به ثروات الوطن. لكن للفساد أيضا رائحة بشعة منتنة لا تغطيها كل طيوب الشرق أو عطور الغرب، رائحة لا يخطئها قلب يعقل، ولا بصيرة تهتدي، فلا نحار في التعرف عليها. يقال إن هناك اتجاهين لتعريف الفساد. أولهما يصف الفساد بأنه خروج عن القانون والنظام أو عدم الالتزام بهما أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام؛ تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية. وثانيهما، وهو اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته منظمة الشفافية الدولية بأنه «كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية للنفس أو للجماعة». وأيا كان تعريف الفساد فإن نتيجته واحدة، إلحاق الضرر بالمصلحة العامة وتعطيل البناء والتنمية في المجتمع. ومظاهر الفساد متعددة تتجلى في مجموعة من السلوكيات التي يقوم بها بعض من يتولون المناصب العامة، تختلف في المظهر، لكنها تتفق في النتيجة. فالرشوة فساد، والمحسوبية فساد، والمحاباة فساد، والواسطة أو الفزعة فساد، والابتزاز فساد، ونهب المال العام فساد بكل تأكيد، وسوء الإدارة فساد، وضعف الأجهزة الرقابية فساد، وحماية الفساد فساد! تتعدد أسباب تفشي الفساد في المجتمع، لكن يمكن تلخيصها في انتشار الفقر والجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية، وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة. كما أن ضعف الجهاز القضائي أو غياب استقلاليته أو ضعف نزاهته يعتبر سببا مشجعا على الفساد. ويظل السبب الواضح للفساد متمثلا في غياب قواعد العمل والإجراءات المكتوبة ومدونات السلوك للموظفين في قطاعات العمل العام والأهلي والخاص، وهو ما يفتح المجال لممارسة الفساد. كما أن ضعف أو انعدام مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الرقابة على الأداء الحكومي يسهمان بشكل مباشر في تفشي الفساد، وبخاصة في ظل غياب حرية الإعلام وانحسار دورها دون الوصول للمعلومات والسجلات العامة، ما يحول دون ممارستها لدورها الرقابي على أعمال الوزارات والمؤسسات العامة. الفساد آفة المجتمعات في كل زمان ومكان وبلد، خصوصا عندما تنعدم وسائل محاربته على مستوى الدولة والمجتمع. لذلك، فإن مجابهة الفساد تتطلب الشفافية المطلقة والمساءلة والمحاسبة والنزاهة، كما تتطلب أن تتناسب الأحكام القضائية مع حجم الآثار الناتجة عن الممارسات التي تشكل خرقا للنظام. ولا يمكن أن تكتمل منظومة مكافحة الفساد إلا بوجود رأي عام نشط يتابع الأحداث ويكشف حالات الفساد صغيرة كانت أو كبيرة، أفقية كانت أو عمودية، ويتابع مسيرتها حتى يجد المفسد عقابه ليرتدع غيره من المفسدين. يقال إنه عندما سئل أردوغان كيف استطاع أن يحول مدينة إسطنبول خلال رئاسته لبلديتها عام 1994 من مدينة تعاني من مآسي المواصلات والصرف الصحي والجريمة إلى مدينة عصرية ومعلم سياحي كبير، قال: كان هناك عدو واحد.. الفساد، حاربناه فانتصرنا.