حين قابلتها في مكتبها بهيئة الكتاب الكائن بكورنيش النيل لم يشغلها خلال مصافحتي لها سوى تلقيها مكالمة على هاتفها أنهتها على وجه السرعة: «أرجو أن توجزي في الحوار كي أسرع بالانضمام إليهم، في إشارة إلى المحتجين في ميدان التحرير». إنها الشاعرة والروائية والمترجمة مشرفة سلسلة الجوائز بهيئة الكتاب المصرية، سهير المصادفة التي حققت معادلة صعبة في النجاح بين العمل الإداري والإبداع الحائز على جوائز، وهي وسط ذلك كله لا تكف يوما عن الاشتباك مع واقعها الثقافي وتوجيه النقد اللاذع لأي قصور في المؤسسات الثقافية الحكومية حتى دفعت كما تقول ثمنا أمنيا أقصاها وقادها لميدان التحرير وقصر الاتحادية. وتعترف «المصادفة» أنها تواصل التحدي بأحدث روايتها «رحلة الضباع» ، وتخشى من نبوءة خيالها المشؤوم وتتحقق كارثة روايتها «ميس إيجبت» ، عندما قتل الإرهابي في أولى صفحاتها أجمل جميلات مصر، وفي آخر صفحاتها يقتل الإرهابي نفسه عقل مصر.. ثم دار هذا الحوار بين «عكاظ» والمصادفة دون أن يستجيب لطلبها بالإيجاز. هاجمتِ هيئة الكتاب وحكمتِ بأن المسؤولين عن مقدرات الهيئة أموات، وقلتِ إنك دفعتِ الثمن أمنيا وإداريا .. أي ثمن دفعتِ ؟ أيام حكم الرئيس السابق دفعت ثمنا باهظا وسعيدة بدفع فاتورته، لأنه لولا الثمن لما كانت ثورة 25 يناير، ولكنت شاركت القتلة والمسؤولين حتى الآن عما يحدث في الشارع المصري، وهذا النظام باق ولم يسقط بعد بدليل أن النظام الجديد جاء بالموالين وتحالف مع الفلول وليس مع القوى المدنية الأخرى. ولذلك فإنني لست نادمة أن يتم إقصائي من المناصب القيادية الثقافية، رغم أن كل المثقفين طالما رشحوني لبعض المواقع التي أستطيع أن أمنح المشهد الثقافي من خلالها زخما ما أو أنفذ فيها استراتيجيات ثقافية يؤمنون بها. لكني كتبت إجابة عما قاله لي ناصر الأنصاري رئيس هيئة الكتاب قبل وفاته «إن الملف الأمني لك لا يسمح» . سيف الرقابة لجأتِ في نشر رواياتكِ وكتب الأطفال المترجمة لدور نشر خاصة، رغم ما يتاح لك في هيئة الكتاب من فرص للطباعة والترويج ... بماذ تفسرين هذا الاختيار ؟ للأسف، صناعة النشر في المؤسسات الحكومية أصابها العوار ولم تفلح في تطوير هذه الصناعة بسبب مركزية الإدارة وانعدام الخيال الإداري لدى المنفذين والمخططين لآليات النشر، بينما يواجه نشر الأعمال الإبداعية بصفة خاصة بسيف الرقابة، حيث كان باستطاعة أي نائب برلماني في عهد النظام السابق أن يقدم استجوابا حول نشر عمل إبداعي، فهم بطريقة خاطئة، أن به شبهة ازدراء أديان أو شبهة التشجيع على الرذيلة أو ازدراء الحاكم، وللتدليل على ذلك جرى فرم الطبعة الأصلية لرواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ، بينما واجهت شخصيا طلب إحاطة بالبرلمان لمنع توزيع روايتي «لهو الأبالسة» . وبموجب هذه المحاصرة باتت المؤسسات الحكومية تعرف حدودها وماذا تنشر حتى لا يتم جرجرتها إلى مجلس الشعب ومواجهة استجوابات طاحنة أبرزها كيف تم نشر مثل هذا الكتاب في جهة حكومية بأموال دافعي الضرائب! والنتيجة أن المؤسسات الحكومية طبعت عشرات الأعمال البعيدة تماما عن تمثيل المشهد الإبداعي في مصر ومن ثم تراجع نشر الإبداع بوجه عام في هذه المؤسسات. واقع مؤلم لكنكِ اشتبكتِ مع المركز القومي للترجمة حين وصفتِه بأنه جثة هامدة .. إلى أين وصل هذا الاشتباك خاصة أنه يتعلق بمستقبل الترجمة في مصر ؟ بوصفي مترجمة فإن هذه القضية تمثل محور اهتمام كبير عندي، ولأن الواقع مؤلم، كتبت مقالات أنتقد فيها قصور الترجمة في مصر والعالم العربي مقارنة بإسرائيل التي تترجم أكثر من الوطن العربي مرة ونصف سنويا. وبعد إنشاء المركز القومي للترجمة نجد أن ترجماته لا تؤدي إلى تراكم كمي يجعلنا نقفز الحاجز المخزي لترجمات إسرائيل، ومن ثم طرحت عدة أفكار لتطوير هذا المركز. لكن ألا تعتقدين أن دعوتك للمركز القومي قد أتت ثمارها بدليل ترجمته لرواية «الذرة الحمراء» للأديب الصيني مويان صاحب نوبل ؟ بالضرورة إنني أشعر بالسعادة أن تجد دعواتي لإصلاح حال الترجمة بالمركز القومي للترجمة استجابة عملية، وهذا هذا هو دور المثقف أن يطرح السؤال ويفجر المشكلة ويقترح الحلول العملية، والحقيقة أن المركز قد أقام ورشا لتدريب المترجمين لكن حتى الآن لم تؤدِ دورها كما ينبغي، وأتمنى أن يواصلوا تطوير أدائهم لخدمة الترجمة في الوطن العربي. كتابة الجسد تدفعينني لإشكالية الكتابة في الوطن العربي .. كيف ترينها في ضوء تحدي تراث المكتبة العربية ؟ الكتابة الإبداعية في الوطن العربي مرت بمراحل كثيرة ارتبطت بعد نجيب محفوظ وفي حقبة التسعينيات بموجات من التوجهات السياسية، وهذه التوجهات السياسية جعلتني مترددة في نشر أعمالي وأرجأت نشرها مدة خمس سنوات كاملة، لأنه في هذه الأثناء ظهرت موجة «الكتابة بالجسد» والتي استفزتني جدا إلى حد أني كتبت ضدها قائلة : يبدو أن من يمنحون الجوائز ويقفون خلف التهليل للكتابة بالجسد هم عناصر من النظام القديم وأمن الدولة، الذي حاول إبعاد الناس عن أية قضايا سياسية وفكرية ترتبط بطين هذا الشعب، وكان لابد له أن يصيغ مخرجا للكتابة العبثية أو الجسدية. فكان نصيبنا من هذه المخارج كتابة الجسد. وهو ما أراه مخالفا للسنة الكونية لله في خلقه، فجسدي ليس منفصلا وجوده في العالم الفسيح عن كل الرؤى الوجودية التي تدور حوله، ولذلك قلت وقتها تعبيرا: إنه «إذا كان لهذا الجسد أن يكتب بمعزل عن التابوهات كلها، فأنا أحدده بأنه جسد لم يصل لدرجة ما من الإنسانية»، فهذا الجسد هو الذي أصلي به للخالق عز وجل، وهو الذي يرى كيف يلعب الحكام بمقدرات الشعوب، فكيف إذن أكتب جسدا منفصلا عن موت طفل تحت قضبان قطار في أقصى الصعيد!.