خبر عز علي سماعه، وأثر في قلبي موقعه، وارتجت منه أضلعي، وكاد من الحزن لساني أن ينعقد من هذا الخبر المفجع والمصاب الجلل، وارتعشت يدي وهي تمتد للتعزية فيه، ولعمري أن مصابي فيه كبير وأن جزعي عليه جدير، ولكني لا أقول إلا ما يرضي خالقنا ورازقنا «إنا لله وإنا إليه راجعون». عرفته منذ أكثر من ثلاثين عاما، حين تزوج من ابنة أخي وشقيقي الشيخ فراج يرحمه الله وقد عرفته طبيبا للأطفال يعالج مرضاه من الفقراء بالمجان وهو باسم، لا يهش إلا لمعنى أضمره في فؤاده، وقبل من أجله البذل والعطاء والإرهاق وهو محتسب أجره عند الله، وقد كان في الحقيقة يوازن بين أمرين، بين ثروات الدنيا وثواب الآخرة، فيختار الآخرة على الدنيا ثم يمضي إلى هدفه، مقيما لأرقى جمعية خيرية هي جمعية «عناية» لعلاج المرضى المعوزين بالمجان، وحلاوة الرجاء الذي يملأ روحه أشهى عنده من كل شيء وأغلى على فؤاده من مال الدنيا، لقد كان صاحب رسالة وهمة وعزيمة. وكما كان الدكتور عبدالعزيز الراشد فارسا لطب الأطفال بالنهار، كان قانتا لله بالليل وبالأسحار، يرجو رحمته ويخشى عذابه، وحيثما حل يترك وراءه أثرا صالحا، سل الألوف المؤلفة من الأطفال المرضى الذي شفاهم الله على يديه والأمهات المفجوعات لآلام أطفالهن والآباء عن هذا الرجل، وسوف تعرف أنه ما من أحد منهم إلا وفي حياته ونفسه ومشاعره أثر طيب يعتز به ويغالي بقيمته ويمتدح به جوهر هذا الرجل ومعدنه، وأحسب أن هذا يرجع إلى حب الله له. لقد عرفت هذا الرجل عن قرب، وهو مدرك تمام الإدراك أن الدنيا مطية للآخرة، وأن العبد إذا لم يصنع فيها جسرا للعبور منه إلى رضوان الله فلا خير فيها، عرفت الرجل مترفعا عن الدنيا، مبتعدا عن الموبقات، ضابطا لنفسه، يرقب عطاء ربه ويبتغي مرضاته، يطلب الدنيا ليستعين بها على الآخرة دون أدنى استعداد للتضحية بدينه أو مروءته في سبيلها. سأذكر موقفين، وهما غيض من فيض من مواقفه الإنسانية النبيلة التي يندر وجودها في زماننا هذا، وهما: الموقف الأول: بعد وفاة والده رحمه الله في منتصف شهر ذي القعدة عام 1409ه بأسبوعين، سافر شقيقي الشيخ فراج رحمه الله إلى أمريكا للعلاج ورافقه شقيقي الدكتور عبدالعزيز ورأى الأطباء ضرورة إجراء عملية جراحية وكانت خطيرة للغاية، وكان للدكتور عبدالعزيز الراشد رحمه الله رأي مغاير، فسافر إلى أمريكا تاركا والدته رحمها الله وأسرته وعمله وما حمل من أعباء جديدة من جراء وفاة والده رحمه الله ولازم أخي فترة تقرب من شهر، ولم يتركه إلا بعد أن اطمأن إلى وضعه. الموقف الثاني: بعد اشتداد وطأة المرض على أبي معاذ ونقله إلى أمريكا للمرة الثانية وهو في حالة حرجة، فوجئت باتصاله علي ليلة زفاف ابنتي (رقية) مساء الرابع من شهر شوال 1433ه، مهنئا بزواجها وداعيا لها بالتوفيق، فأي نوع من الرجال هو!! لم ينس أن يشاركنا أفراحنا وهو في قمة الألم. وإلى ابنة أخي الغالية أم معاذ التي وقفت إلى جوار زوجها داعمة لمسيرته حاضة له على فعل الخيرات، مضحية بالكثير من مطالبها في سبيل تحقيق رغبات زوجها في العمل الخيري التطوعي، ثم وقفت إلى جواره في مرضه متفانية في خدمته وفي العمل على راحته، متنقلة معه بين ردهات المستشفيات وغرف العمليات داخل المملكة وخارجها حتى توفاه الله. إلى ابنة أخي الحبيبة أم معاذ أقول لها: إذا كان التراب قد وارى جسد زوجك فإن أعماله الصالحة باقية، حافظة لاسمه وذكراه، وإن من أعظم عمله الصالح أولاده الذين أحسن تربيتهم ونشأهم على أحسن الأخلاق وأكمل الآداب، فاصبري وصابري وأكملي مسيرة زوجك الراحل. أما أنت أيها الابن الحبيب معاذ، فلقد ضربت أروع الأمثلة في البر بوالدك رحمه الله من خلال ملازمتك له في الداخل والخارج أثناء مرضه وحتى وفاته، فأسأل الله أن يجزيك وأخاك محمد وأخواتك نسيبة ولبنى والشيماء ولينا ورغد وشهد وغادة ووالدتهم وأعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم خير الجزاء، وأن يجبر مصاب الجميع بوفاته. * مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة