قبل 10 سنوات، كنت أراقب جمال الطبيعة من نافذة حافلة سياحية متجهة إلى لاهاي الهولندية، وفي لحظة غير متوقعة أشار المرشد السياحي إلى قصر صغير وقال إن الملكة تقيم فيه منذ عدة سنوات، ففهم السياح أن القصر الشهير الذي يتوسط أمستردام للتصوير فقط، ثم أضاف أن الهولنديين يشعرون بالحيرة تجاه مرحلة ما بعد الملكة بياتريكس، حيث سيتولى الحكم ابنها ولي العهد، وهم معتادون على حكم النساء ولا يعرفون ما الذي سيحل إذا عاشوا تحت حكم رجل؟! . تذكرت ملاحظة ذلك المرشد السياحي حين قرأت قبل أربعة أيام خبر تنازل ملكة هولندا عن العرش لصالح ابنها الذي أضحى أول رجل يحكم هذا البلد منذ أكثر من قرن، وشعرت أن حيرة الهولنديين مفتعلة وترفيهية؛ لأن نظام الحكم في هولندا ملكي دستوري ورئيس الوزراء وأعضاء حكومته هم من يملكون القرار الفعلي، وبالتالي فإن تنازل الملكة لابنها لن يغير شيئا على أرض الواقع، وقصة الهولنديين مع الملكية غريبة عجيبة، فقد تخلصوا منها وعاشوا تحت النظام الجمهوري لسنوات طويلة جدا ثم عادوا إليها مرة أخرى، إما لأن لديهم مثلا شعبيا يعادل: (ما تعرف قديري لين تجرب غيري)، أو لأن لديهم مثلا يعادل: (أمسك مجنونك لا يجيك أجن منه)!، المهم أنهم يحتفلون كل عام بذكرى الملكية ويلبسون عن بكرة أبيهم القمصان البرتقالية تعبيرا عن ولائهم للعائلة المالكة (ال أورانج)!. والملك الهولندي الجديد عرف بتعامله مع مصوري الصحف الفضائحية (الباباراتزي) بالنباطة!، حيث أنه ما إن يضع المصور عينه أمام عدسة الكاميرا في انتظار لقطة خاصة حتى تقصف عينه الأخرى بقذيفة من النباطة الملكية!، وهو متزوج من حسناء أرجنتينية من (فلول) النظام الديكتاتوري السابق في الأرجنتين، وجلالته مهتم حد البلل بقضايا المياه، وهذه خبرة مهمة في بلد مهدد دائما بالغرق ويعتبر بقاؤه سالما بمساحاته الزراعية الساحرة معجزة بشرية لا يصنعها إلا الهولنديون. هولندا (أو مملكة الأراضي المنخفضة) بلد منحاز إلى الحرية بجنون، حيث لا يوجد أي شيء يمنع الإنسان من فعل أي شيء كان ما دامت حريته هذه لا تعرقل حياة الآخرين، بإمكاننا طبعا أن نجمل صورة الحرية الهولندية حين نعرض صورة شيخ مسلم بلحيته الطويلة يسير بجوار حاخام يهودي بلحيته وجدائله، حيث يشعر كل منهما بحرية لا يجدها في بلده الأصلي، وبإمكاننا أيضا أن نبرز الوجه القبيح حين نعرض صورة لأماكن اللهو الإباحية التي تمتد عبر شوارع أمستردام وقنواتها المائية!. نعم، بإمكاننا أن نقول بأن الهولنديين (تربية حريم) ولا يقيمون وزنا لمسطرة الفضيلة والرذيلة، ولكن إذا أردنا الإنصاف علينا أن نذكر أنهم استطاعوا رغم قلة عددهم وصغر مساحة بلدهم أن يصنعوا واحدة من بين أكثر دول العالم تقدما وأقواها اقتصادا، فإذا تحدث القوم عن الزراعة جاء الهولنديون ببقرتهم الشهيرة وأجبانهم وأزهارهم، وإن تحول الحديث باتجاه الصناعات التكنولوجية جاؤوا ب(فيليبس)، وإن اتجهنا للنفط جاؤوا ب(شل)، وإن تباهت الأمم بإنجازاتها الثقافية أحضروا فان جوخ بأذنه المقطوعة، وإن تبارت الشعوب في أعمال الخير فإن الهولنديين يتصدرون شعوب الأرض في التبرعات الخيرية، هذا بخلاف أنهم من أكثر شعوب العالم حرصا على العدالة؛ ولذلك تحتضن ديارهم محكمة العدل الدولية.. فهل تظنون أن أحوالهم سوف تتغير بعد أن جاءهم رجال (يشكمهم)؟!. للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ،636250 موبايلي، 737701 زين تبدأ بالرمز 211 مسافة ثم الرسالة [email protected]