لا يتوقع الكثيرون أن الأسوار العالية التي تحتجز حرية الأشخاص خلفها ممن ارتكبوا جرائم في حق مجتمعهم وأنفسهم، يمكنها أن تنجح في تحويل خط سير البعض، مثلما تنجح في كبح جماح الجريمة. فالجميع يعرف أن أبواب السجون موصدة، واختراقها ليس بالأمر السهل، فالجدران السميكة هي الوحيدة التي تؤمن لمن هم خارجها العيش بأمان. عرفت أن جامعة شقراء سعت لاختراق الأسوار العالية، وبدأت في فك قيود السجناء لا من أغلال الأبواب التي تحول دون فرارهم، ولكن بتخليصهم من قيود تحيط بعقولهم، إذن هي مغامرة. فالطلقاء ربما لا تملك الجامعات تغيير مسارهم أو تحديث أفقهم، فماذا عن السجناء؟ سألت نفسي وفيما لم أجد إجابة قررت خوض التجربة والتعرف على واقع ما هو قائم، ما حقيقته، وما ردة الفعل، وما صحة ما يقال إن هناك أحلاما تراود البعض في دخول سجن شقراء ولو لعام. • لم أشك لحظة في أن من هم داخل السجن مثلهم مثل من هم خارجه يحملون عقلا وفكرا، صحيح أن شتان ما بين تطويع الفكر والعقل لعمل يعود بالنفع على الفرد، وبين عمل يقود صاحبه لتسجيل اسمه في قائمة الممنوعين أحيانا والسوابق في أحيان أخرى، إلا أن التجربة تستحق التوقف.. فهي لحظة شعورية تغلبت فيها «المهنة» على الواقع «الإنساني»، أردت من خلالها التعرف على: هل نجحت تجربة حضانات السجون لتفريخ الجامعيين من وراء أسوار السجون؟ كان الرد سريعا من الدكتور صالح الخضيري وكيل عميد كلية العلوم والآداب بجامعة شقراء، الذي فضل تقديم عرض عن التجربة، معتبرا إياها ثمرة مبادرة قامت بها الجامعة تجاه خدمة مجتمعها، انتهت بتوقيع اتفاقية مع الإدارة العامة للسجون تم بموجبها فتح فرع للجامعة داخل سجن شقراء. • أهي مغامرة إذن.. سألته؟ فأجاب وقد ارتسمت ملامح الفرح ومقومات الحماس على محياه، معتبرا أن شهادة النجاح نالتها التجربة بتوقيع الملتحقين بهذا القسم. • ثم سألني: أو تريد أن تجرب؟ بالطبع عرفت أنه لا يعني سوى رصد تجربة تدور وراء الأسوار، فما أن تلقى إيماءة الموافقة على الرغبة في تصوير الواقع دون إفراط أو تفريط، حتى جاء صوته: إذن سترى بعين الحقيقة ما تريد، نلتقي عند بوابة السجن بعد أذان المغرب. حضرت في الموعد المحدد وحضر الدكتور صالح، وصوت «حي على الصلاة» يصدح لأذان المغرب، وما هي الا دقائق تلت انقضاء الصلاة حتى بدأنا التحرك صوب الأسوار العالية. أمام الأبواب التي تفتح ويسمع صدى أصوات أغلالها، يفرض المشهد رهبة وتوجسا وخوفا وأملا، فيما بدأت دواخلي تتلقى رسائل مليئة بالرهبة والحمد، فيما بدا الضابط المسؤول يتعرف علينا. الرهبة لشعوري بخطر ومرارة فقدان الحرية، والحمد على أنني أتجاوز هذه الأبواب بإرادتي لأتعرف على أحوال من دخل إليها منساقا للأسف وراء إرادته، لكنني أعرف أنني سأخرج أيضا بإرادتي فيما لا يعرف هو ما إذا كانت إرادته يمكنها أن تشفع له بالخروج. أمعنت النظر عند بوابة التفتيش التي بدأنا في اجتيازها، فإذا بها تتأهب لاستقبال أكاديميين اعتادوا على الوصول في الموعد المحدد على مدى الأسبوع، فعرفت أنهم رحالة العلم، يخترقون الأبواب الموصدة لزراعة أشجار المعرفة في ربوع السجن «نغرس ونأمل في حصد الثمار»، هكذا لسان حال الدكتور فايز العبدالكريم أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة شقراء الذي تأهب للدخول لإلقاء محاضرته على طلاب إدارة الأعمال في فرع الجامعة بفرع السجن، فيما رفاقه كثر يزرعون أشجار الرياضيات والإحصاء والعلوم الأخرى. كم هؤلاء؟ سؤال بديهي بدأت في طرحه لأتعرف على ما إذا كانت تجربة الجامعة في تخريج جامعيين من وراء السجن، تؤتي ثمارها، فجاءت الإجابة أن فرع كلية العلوم والآداب بالسجن يضم 34 طالبا منهم 18 في المستوى الأول و16 في المستوى الثاني، ولكن العدد يتزايد بعد أن شاعت أخبار التجربة «بل بعض السجناء في المناطق المجاورة طالبوا بنقلهم إلى سجن شقراء خصيصا ليتمكنوا من الالتحاق بفرع الجامعة في السجن لأربع سنوات». اقتربت من قاعة الدرس، وعند باب الفصل كان الحارس نابضا بالحياة، يحرس طلاب العلم، فيما الدكتور الفايز يسترسل في الشرح، والطلاب منهمكون في الاستماع والتسجيل، استأذنته أن التقى بنماذج من طلابه، فوافق على أن يكون الحوار مختصرا لأن لديهم اختبارا، فيما كان تحفظ الطلاب السجناء الوحيد لا صورة لا أسماء صريحة، انصعت لهم، وبدأت في الاستماع لهم. رفقاء السوء هم الذين أضاعوا من رمز لنفسه بالأحرف (أ. أ. خ): كنت إنسانا طبيعيا، لكن صحبة السوء قادتني إلى أن أكون عضوا في عصابة لسرقة السيارات والمنازل، ليقبض علي وأنال حكما بالسجن سنة وستة أشهر، وتبقت لي أربعة أشهر لكنني أطمح في الخروج قبلها بحسن السير والسلوك، حيث حفظت 15 جزءا من القرآن الكريم، وراض بقضاء الله وقدره. • وهل تحاول أن تغير من واقعك الآن بهذه الدراسة؟ أجاب: تجربة فرع الجامعة ممتازة، حيث تتيح الاتفاقية بين الجامعة والسجن قبول النزلاء دون اختبار قياس أو المفاضلة أو الدرجات، وتعطي الفرصة لأحدنا لمواصلة دراسته الجامعية بعد الخروج، والآن أدرس في المستوى الأول وعندي طموح في استكمال دراستي الجامعية بعد الخروج إن شاء الله. • وما الخبرة التي ستخرج بها من هذا السجن؟ أضاف: الابتعاد عن رفقاء السوء، فهم مصدر كل الشرور، فيما أتمنى من الشباب أن يحمدوا الله عز وجل على نعمة الحرية والصحة، ولا تفوتكم نعمة الإيمان، لقد ذقتها وأدركت حلاوتها وما تركته في نفسي من سكينة واطمئنان، ويا ليت من هم خارج هذه الأسوار يدركون تلك النعمة. في الجوار كان يتابع الحوار شاب فارع الطول، متين البنية، هادئ وإن بدت على قسماته ملامح حزن دفين يحاول أن يغلفها بابتسامة الأسف، داهمته بالسؤال بعدما عرف نفسه بأنه (ف. م. ع)، فاعترف: المضاربة بسبب قضية دين لأحد أخوتي هي التي زجت بي في السجن منذ عام تقريبا، لكن لم يصدر حكم حتى الآن ضدي، فيما لم تعرض قضيتي على القاضي إلا اليوم. استوقفناه للاستفسار عن السبب في تأخر صدور الحكم، فأجاب: إجراءات الطب الشرعي هي التي تأخرت. • وكيف ترى دراستك داخل السجن؟ قال: السجن علمني الصبر، ومنحني الإحساس بقيمة الحياة والحرية، الآن أتأمل في ما كنت عليه من نعمة فقدتها هنا بين هذه الجدران الباردة، ليتني استطيع أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولهذا نصيحتي لمن يتمتع بالحرية ألا يضيعها في لحظة غضب، أما الدراسة فكان لدي طموح في إكمال دراستي الجامعية، وانتهزت الفرصة لأدرس حاليا في المستوى الأول من إدارة الأعمال، وهي فرصة للاستفادة رغم أنني لا أعرف متى أخرج. انتظار القصاص داخل فصل الدراسي مسألة صعبة، لا أعرف كيف كان يقوى عليها من رمز لنفسه بالأحرف (ع. ع)، والذي التقيته في قاعة يدرس فيها الإحصاء، وجهه الشاحب يبهت بشرته البيضاء، فيما الحزن الذي في عينه يوازي سواد لحيته، لكنه كان يحاول ألا يرسم أوصافه الحزينة في خاطرى، ولم أتوقع أن تكون إجابته المباشرة على سؤالي عما أتى به إلى هنا القول: تهمة قتل، وأنتظر القصاص بعدما صدر الحكم، فيما لا يزال الورثة دون سن الرشد، وها أنذا أنتظر منذ 15 عاما. • سألته: ولكنك تنتظر القصاص، فلم الدراسة؟ أجاب: أدرس في المستوى الثاني من الجامعة أي أنني مقتنع بهذا وليست لحظة عابرة، الأمل في الله كبير والإيمان يرفض اليأس ولا ييأس من روح الله إلا من ليس في قلبه الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، إذا كان هذا عند قيام الساعة التي هي نهاية هذه الدنيا فكيف بمن يعيش وما يزال لديه الأمل الكبير؟، قلت في نفسي: يا إلهي، كم من الأحرار الطلقاء لا يستحضرون هذه المعاني. • وكيف تلخص تجربتك الطويلة في السجن، وأيهما الأصعب لك سنوات البداية أم الأخرى التي تنذر ببلوغ الورثة سن الرشد؟ أضاف: السنوات الأولى كانت أسهل، وكلما تقادم العهد كان السجن صعبا وثقيلا، حيث إن الأجيال القديمة من المساجين كانوا أطيب، وأخلاقهم أحسن، فيما الجيل الجديد ساءت أخلاقه، وتعلمت داخل السجن أن الحرية نعمة كبيرة لا يعرفها إلا من يحرم منها، اللجوء إلى الله علاج في الأزمات وعاصم من نزغات الشيطان. على مقربة من الطالب القاتل، وتحديدا على يساره كان هناك طالب رفض الحوار، فيما وافق من كان على يمينه، كاشفا أنه (س. س. م): انتظر القصاص، بعد جريمة قتل، وما زال التنفيذ مؤجلا في انتظار شفاء أحد الورثة. سألته السؤال الذي لم أسأله رفيقه الأول: وهل قتلت متعمدا، فاكتفى بالتأكيد على أنه قضاء الله وقدره، مضيفا: هذه السنة التاسعة التي أقضيها، والبداية صعبة للبعد عن الأهل والأصدقاء وحياة الحرية، ومع مرور الوقت يتأقلم الإنسان، لكن يبقى السجن المكان الصعب الذي يتعلم فيه الإنسان الصبر ومعاني أن تكون حرا تتحرك كيفما تشاء ووقتما تريد. • وماذا لفت نظرك داخل السجن؟ قال: أكثر القضايا مخدرات وسرقات، حيث زادت بصورة واضحة في السنوات الأخيرة، وهي نتائج مخالطة رفقاء السوء، لذا أقول لأولياء الأمور خافوا الله في أولادكم. من الفصل الدراسي داخل السجن، كانت ثلاثة يتقاسمها عدد من الطلاب، رأيت الموافقة في أعين أحدهم، فعرضت محاورته، فاشترط تغييب حتى حروف اسمه: هناك من يربط الحروف، ويبحث عمن وراءها، فاعذرني، ولكن لك ما تريد من معلومات. • ما قضيتك؟ سؤال لم أكد أوجهه، لأجد الإجابة مباشرة: بيع سلاح، وقطع طريق، «ولكن فضلا لا تذكر قطع الطريق، لأنها عيب تخدش شهامة الرجل». • هل صدر عليك حكم؟ أجاب: صدر بحقي حكم «الإفساد في الأرض» أي قطع الرجل واليد من خلاف. • سألته ما إذا كان الحكم نهائيا، فأكد أنه في قضاء الاستئناف. وكم قضيت في السجن؟ خمس سنوات. • وما وصيتك لمن هم خارج هذه الأسوار؟ سألني ما إذا كنت سأنقل حديثي كما هو لأولياء الأمور والشباب، فوعدته، فقال: أقول لهم خافوا الله واتقوه في أولادكم، لا تتركوا لهم الحبل على الغارب، هذا الشباب يسحبه التيار الجارف إلى وراء القضبان فلا ينفع الصوت بعد الفوت، وأقول للشباب ابتعدوا عن المخدرات ولا تثقوا في كل أحد. اتصال مفتوح ل16 نزيلاً رافقت الدكتور صالح الخضيري، الذي أصر على زيارة الجناح المثالي بسجن شقراء العام، فأذهلني ما رأيت من تميز نجح في الوصول إليه 16 من بين 130 نزيلا في السجن. وعرفت أن للدخول شروطا من بينها حسن السلوك والمواظبة على الصلاة جماعة وعدم التدخين، والجناح مؤثث بطريقة معقولة، الأسرة فيه كل اثنين فوق بعض، وفيه مسجد مفروش بسجاد جيد ومضاء بطريقة جيدة، وهناك هاتف معلق على الجدار، وقيل لي إنه يمكن لأي نزيل في هذا الجناح استخدامه للاتصال بمن يشاء في أي وقت، كما يتوفر في القسم مطبخ صغير فيه ثلاجة (قالوا لي هذا «بوفيه» القسم)، وملحق صالة رياضية فيها بلياردو وتنس طاولة وبعض الألعاب الأخرى، النزلاء تبدو عليهم ميزات الجناح من حيث مستوى الراحة والنوم والغذاء. رسالة إلى القارئ أعلم أنني لم أسأل كل الأسئلة التي تدور في خاطرك قارئي الكريم لكن أرجوك اعذرني فقد كنت في حالة شعورية مشدودة بين الرحمة والبحث عن الحقيقة، وكانت أعين الشباب تبعث رسائل ندم وشوق إلى ماض نقي لا يعرفون متى يعودون إليه وما كنت أريد أن أفقدهم هذا «الأمل» بأسئلة توحي بذلك.