فن القصة القصيرة جدا نص مخاتل يحتاج إلى مقدرة إبداعية عالية؛ لكي يصل إلى غايته، إذ على المبدع أن يقيم عالما سرديا من خلال جمل قصيرة تحمل دلالاتها (المضغوطة)، تاركة للمتلقي بما يمتلك من ثقافة الوصول إلى المعنى. وغالبا ما تكون النهاية نهاية مخادعة لخلق المفارقة، وهي السمة التي تتمتع بها الطرفة أو النكتة، حيث تتحرك الأحداث وفق المألوف لدى السامع، إلا أن النهاية تأتي بالمفارقة لكي تحدث حالة الانشراح أو الضحك. والقصة القصيرة جدا تعتمد على هذه السمة، وتكون نهايتها تستهدف خلق الدهشة بما هو غير متوقع. وقد سميت نهايات القصة القصيرة بمسميات عديدة التصقت ببعض أساتذة كتاب القصة القصيرة، مثل النهاية القنبلة عند تشيخوف، أو النهاية الملتوية عند موبسان، أو النهاية المفتوحة عند كثير من كتاب القصة في الوقت الراهن، ثم تشابك هذا الفن مع قصيدة النثر، وتجاذب الطرفان لعبة المفاجأة والإغواء اللغوي من غير التنبه إلى وصية فرد تشابل بضرورة أن تكون القصة القصيرة جدا مثيرة للقلق، مع خلق حالة من عدم الارتياح، وهي الحالة التي تجعل النص متوترا، بحيث ينعكس على حالة المتلقي. وأعتقد أن على المبدع عدم الالتفات إلى وصايا النقاد أو زملاء الكتابة، حيث أن كل مبدع يمتلك بصمته الخاصة التي عليه أن يضعها، فلو أن عظماء الفنون التزموا بالسير على نصائح من قبلهم لما ظهرت موهبة عظيمة. إلا أننا بحاجة إلى الالتفات للسمات الثقافية، وكيف يمكن إعطاؤها وقودا جديدا لأن تنتقل من حالة السكون إلى حالة الحركة، وهو ما يدخل في فضاء الأثر والمؤثر؛ لأن كل ثقافة عليها أن تحيي، والحياة ضد التكلس، أي أن الإبداع من ضمن مهامه إحياء ثقافته وإنماؤها، وهي مهمة يختص بها الأفذاذ من المبدعين. **** وإن كان هناك من ملاحظة على نصوص القصة القصيرة جدا، فيمكن لنا الحديث عن الزمن داخل هذه النصوص، فهو زمن تتابعي وهو ما يعيدنا إلى مصطلح الزمن الكرونولوجي الذي ارتبط بأسطورة كورنس الذي يعمد إلى أكل أولاده لكي لا يخلفه منهم أحد. والزمن الكرونولوجي يعطي سمة اجتماعية وثقافية من خلال النصوص التي ينتجها تتمثل في البطء والركود، إذ تتسم تلك الثقافة بجريان الزمن في تتابعية تتسق مع الوجود الراكد، بينما الثقافة المتحركة والمتقلبة والمتأثرة تعتمد على تكسير الزمن داخل النص ليأتي دور المتلقي في جبر تلك التكسرات. وهذه النقطة تحديدا كانت محل حوار بيني وبين أحد الأصدقاء النقاد، وكان له فضل التنبيه في مراجعة النصوص السابقة التي نشرت الأسبوع الماضي وملاحظة تتابعية الزمن. **** ولكي نقترب من ملاحظة جريان الزمن داخل النص في تراتبيته أو كسره، فلنقرأ هذا النص: أجامع كستناء؟ يسألون بدورهم حين سألناهم عن الطريق. فهذا النص اعتمد على تكسير الزمن، فبدايته حملت زمنية متأخرة على وقوع الحدث، ولو أردنا نثر هذا النص وفق المثلث الأرسطي سنجد أن المتلقي هو من ينهض بأركان النص السردية، ويضع البداية والحبكة والنهاية وفق تصوره لصيرورة الحدث. ومثل هذا النص يتلقى المتلقى الأحداث في إطار زمني مفكك يمكنه من ملء الفراغات الزمنية بإعادة ترتيب الأحداث وفق زمنيتها. ونلحظ أننا نجيد تكسير الزمن على المستوى التخيلي، فالذاكرة يمكن لها أن تنطلق للخلف بسرعة قصوى وفي أجزاء من الثانية يمكنها الانطلاق إلى الزمن اللا متناهي مستقبلا، وبين الانطلاقين للخلف والأمام تعود للحظة، وقد تخيلت عشرات الأحداث. وإذا كانت هذه المقدرة متواجدة على المستوى التخيلي، فلماذا لا نمارسها كتابيا؟ وهذا السؤال يمكننا جميعا المشاركة في الإجابة عليه، إلا أن كل إجابة هي منتج لثقافة المجيب، وباختلاف المقدرة الكتابية عند كل فرد منا نبتعد أو نقترب فيما نظن أنه الصواب، بينما تكون نقطة الكتابة غير معنية بهذا التحديد الصارم، إذ يعني الكاتب أحداثا مراوغة جيدة بذاته؛ لكي يحقق نشوته الكتابية أولا، ومن خلالها يرى أن ما كتبه سوف يحقق تلك النشوة عند المتلقي. وهذا هو جمال الإبداع، أي عدم جود مقايس محددة، إذ حقق الكاتب شروطها يمكن أن يقال إنه أبدع، فالإبداع حالة خاصة تحدث أولا داخل المنشئ، ثم تحدث ارتداداتها الخاصة بها عند المتلقي. ولأن المبدع يمكن له صياغة نصه بعيدا عما يتفوه به النقاد، قد يستطيع خلق النص النافر والمتجاوز لكل الأقاويل النقدية، إذ أن الكتابة هي محاولة اختراق دائم لسقف المحصلة الكتابية. وكثير من النصوص تحمل جمالها الخاص الذي تعجز أمامه الكلمات ولا تجد سوى ترديد رائع. وأعتقد أن الفن تكفيه هذه المفردة في تحقق وجوده. والنصوص المنشورة اليوم أغلبها يمكنه أن يحصل على لفظة رائع من قبل القراء، وهذه المفردة تكفي أي مبدع لكي ينتشي بما كتب. **** كانت هناك دعوى لأصدقاء هاشتاق قصة قصيرة جدا بأن يكتبوا بأسمائهم الصريحة، كون أي مبدع بحاجة إلى بناء اسمه من خلال مشواره الكتابي، وقد استجاب لهذه الدعوة شوبن هاور (آرثر)، وغدا يكتب باسمه الصريح (محمد الشهري)، إذ ليس من اللائق أن يستتر مبدع خلف ستار، فالإبداع ضوء لا تحجبه الغرابيل.